قصة المعتقل رقم ’’5‘‘ الذي نشر فيديو الشهيد حمزة الخطيب
يخلع كنزته الصوفية ويطويها، ثم يضعها تحته لتدرأ عنه زمهرير الأرض، يجلس ويطوي ركبتيه حتى يلتصقا بصدره، ويغلق سحاب سترته الجلدية وكأنها تعانق كامل جسده..
أخبار الآن | عمان – الأردن – (سامية صهيوني):
تحضر أمّه وتطلب منه المجيء إلى حضنها الدافئ، يغير وضعية جلوسه بلمح البصر، زاحفاً إلى حضن أمه ويرخي رأسه، فإذا بالأخير يرتطم بأرض الزنزانة النتنة ذات طول 175، وعرض 75سم، فيكتشف أنه يهذي، وينفجر بكاءّ للمرة الاولى ويرد الصّدى: كفاك نحيباً، لن يسمعك أحد هنا.
ليست المرة الأولى التي يُعتقل فيها المهندس الزراعي “محمود الصبيحي،31ربيعاً”، ولكنّها كانت الأطول والأخطر والأشدّ إيلاماً.
22-3-2012، تمكنت سرية المداهمة من خداع محمود بحجة أن العائلة الحمصية التي يتكفل بها تحتاج إلى الماء، فنزل من بيته مسرعاً لتلبيتها، فإذا بثلاثين عنصراً من الأمن العسكري “فرع 215” يطوق المكان بأكمله، فيستسلم محمود مجبراّ، ويساق من جديد إلى غرفة العقيد “أبو روان”.
يعرف محمود “ابا روان” جيداً، فقد سبق للأخير أن استجوبه وضربه وأهانه وشتمه في اعتقاله الأول، لكن كل ذلك لم يحن من عزيمة وكبرياء محمود، أشدّ مخاوفه كانت أن يقع لوالده مكروه بسببه، خاصة بعد أن تلقى تهديداً مبطناً من أبو روان إن هو لم يعترف بقوله- هل اشتقت لوالدك”.
والخوف الثاني الذي يرتعب من التطرّق إليه محمود ولو بخياله، هو اكتشاف الأمن أنّه المسؤول عن نشر فيديو “حمزة الخطيب” يوم أشهد محمود العالم على أكبر جريمة قد يرتكبها قاتلٌ بحق الطفولة.. لكن مخاوفه تحققت!
أُحيل محمود إلى فرع التحقيق والتجسس”248″، حيث أطلق عليه النقيب باسل طالب ذاك الرقم “المشؤوم” بقوله: “اسمك منذ اليوم الرقم 5، احفظه جيداً، وانسى اسمك الحقيقي”.
لم يعد محمود يأبه بالتّهم الإحدى وعشرين، التي يواجهها هنا، فحاجته إلى النوم كانت تسيطر على اهتمامه بعد ساعات كالدهر كان يقضيها في غرفة التحقيق يومياً، ثمّ يساق إلى زنزانة رقم “7”، تلك التي اعتاد النوم فيها متقوقعاً لضيقها، ولشدة البرد الذي يعتريه في غياب الأغطية.
لم تكن وضعية النوم هي الصعوبة الوحيدة في تلك المنفردة، فقذارتها كانت التحدي الأصعب الذي يثير “الوسواس القهري بالنظافة” لدى محمود، إلى أن تمكن من سرقة ليفة وصابونة من حمام السجن ليدسهما في جيبه ويعود إلى زنزانته عودة المنتصر على كل الحشرات التي تحتلها، يقولها وابتسامة تكسو كامل وجهه.
أمّا حرمانه من الاستحمام، فحكاية أخرى، ثلاثة أنواع من القمل استوطنت بطانات ملابسه، مسببة له التهاب الجلد القوبائي، نزيف وتقيح لا يحتملان، بأظافره الجافة والسميكة يهرش كل موضع في جسده حتى يكاد أن يقتلع جزءا من جلده، إلى أن حدث ذلك فعلاً.
بعد فترة نقل محمود إلى سجن عدرا، ويقول عن تلك اللحظة: “الوضع كان جيداً جداً في عدرا، فلا ضرب ولا إهانات، وكأننا في الخارج” يقول محمود، ويضيف “أجمل ما حصل لي هناك أني وأخيراً سمعت صوت أبي عبر الهاتف”، محاولاً تناسي الحكم عليه بتهمة “الإرهابي” في 2-10-2012 من قبل المحكمة الميدانية، وأن الإعدام مصيره لا محال.
شوق أهله حال دون الإنصات لترجي محمود أن لا يتكبدوا العناء بالمجيء من درعا، لكن الزيارة منعت على أي حال، ليدرك محمود أنه مودع هنا لصالح الجناح العسكري، وأن سجن “صيدنايا هو المحطة الأخيرة له وليس عدرا”.
13-10-2012، يوم السوق إلى صيدنايا، لم ينسَ محمود ذاك المعتقل المحكوم بالمؤبد من مدينة نوى، الذي توسّل لمحمود أن ينتحر ولا يذهب إلى ذاك السجن الملعون
14 يوماً قضاها محمود في صيدنايا مع ثمانية معتقلين من محافظات مختلفة، مجردي الملابس مسلوخي الجلد من التعذيب والضرب في “حفلة الإستقبال” كما يسميها جلادو صيدنايا..
يحشر التسعة في زنزانة مقسومة إلى مرحاض بطول 180وعرض 80 سم، وردهة بطول 180 وعرض 180سم، يتناوب المعتقلين على النوم فيها.
26-10-2012، يستدعى محمود إلى غرفة رئيس السجن اللواء طلعت محفوض، ولأنه كان أول أيام عيد الأضحى، أبى اللواء إلا أن يقدم له الشوكولا، دون أن يتوقف حديثه عن بطولاته التي حققها على الكثير من زوار هذا السجن، متقصداً ذكر اسماء، أطلق سراحها وباتت قيادات معروفة بالجيش الحر، واصفاً إياهم بقوله: “هالكلاب الإرهابيين، ما بين فين المعروف يلي عملتو معن”!
حلق شعر محمود كاملاً، وسلم هويته، وورقة تثبت خروجه من صيدنايا، ليهرول كطائر خرج لتوه من القفص إلى الخارج. وصل إلى كراجات العباسيين بمساعدة إحدى السيارات المارة، واتصل من إحدى الأكشاك بصديقه، يفرح بخروجه سالماً، معزياً إياه، فيستغرب محمود ويسأله، من الذي مات؟؟ يجيبه صديقه نادماً: – منذ يومين، مات أبوك!