قد يبدو الحديث عن “العدالة الانتقالية” في سوريا أو مجرد التطرق إلى موضوعها ضمن ظروف واقع الحدث السوري اليوم ضرباً من السذاجة أو أنه، في أفضل الأحوال، يشي بعدم فهم الأولويات التي تطرحها وقائع اليوم وكل يوم في سوريا، مادام تحريرها من محتليها الداخليين والخارجيين أو استعادتها واحدة موحّدة بات موضع شكوك كثيرة، وربما مصدر يأس يخيم على كثير من السوريين، ولا سيما منهم من فقد الكثير خلال هذه السنوات الخمس الأخيرة: بعض أسرته أو كلها، بعض أقربائه أو كثيراً منهم، مأواه ومستقبله وأحلامه التي دفنها قبل أن يتشبث بالبقاء أياً كان المآل أو يهيم على وجه الأرض. وذلك كله بعد أن عانى خلال أربعين سنة حياة كانت تفتقر إلى الكرامة وإلى الحرية.
فهل يمكن الآن تناول موضوع قانوني يستهدف توطيد السلام الأهلي وردّ الحقوق الضائعة أو المعتدى عليها لأصحابها ما دامت المذابح تتوالى كل يوم بلا هوادة، ينفذها النظام عبر ميليشياته المختلفة وحلفاؤه من الإيرانيين وحزب الله وأفواج المرتزقة الأفغانيين والباكستانيين. وبشتى الوسائل: القصف بالبراميل، وبالتعذيب حتى الموت في المعتقلات، وبالذبح أو بتقطيع أوصال الجثث على مرأى من العالم كله الذي فضل الصمت بعد أن اكتشف بفضل الولايات المتحدة الأمريكية “تعقيد الأمور في سوريا”. أو ينفذها أيضاً بين الحين والآخر حلفاء النظام موضوعياً حتى لا نقول عضوياً: تنظيم الدولة ومن والاه أو ارتبط به كي ينبئ عن هويته الإجرامية ويثير الرعب في كل مكان من الأرض. أو ينفذها إضافة إلى هؤلاء من رفعوا رايات أخرى غير رايات الثورة السورية وأعلنوا شعارات وأهداف لا تمت إلى ما خرج من أجله الشعب بصلة، مشوهين بذلك مُثل الثورة وأهدافها ورايتها وكل من دفع حياته من أجل تحقيقها، مبررين أفعالهم بضرورة القصاص من النظام وأتباعه ومن والاه ناشرين صور وأفلام المجازر فخراً وترهيباً؟
تجد هذه التساؤلات مبررها، فضلاً عن كل ذلك، في ما يبدو انسداد أفق نهاية العذاب السوري بفضل أعداء الشعب السوري وأصدقائه معاً. لكنها مع ما تنطوي عليه من ضروب الخيبة وبعض اليأس تشير في الوقت نفسه إلى ضرورة قصوى تتمثل في استعادة العمل الذي سبق أن بدأ في أوساط الثوار السوريين سواء على مستوى هيئات التنسيق المحلية أو على صعيد مؤسسات المعارضة في الخارج، ثم أخذ بالتراجع تدريجياً بقدر ما بدأ طريق التحرر يبدو طويلاً.
ما الذي تغير في المشهد السوري حقاً كي يبرر تراجع الاهتمام بهذه المهمة الأساس التي لابد من الاستمرار في الإعداد لها والعمل على جعلها ضمن أولى مهام المرحلة الانتقالية التي سيتم خلالها وضع أسس سوريا الجديدة؟ كل عناصر المشهد الحالي كانت موجودة وفاعلة بهذه الصورة أو تلك: سواء الاحتلال الإيراني عبر ميليشيات ذراعيه اللبنانية والعراقية بالإضافة إلى “مستشاريه” من الحرس “الثوري” من ناحية، أو، من ناحية أخرى، الدعم الروسي عسكرياً وديبلوماسياً. كان هؤلاء وأؤلئك يتدبرون أمر دعم النظام الأسدي كلما بدا موشكاً على السقوط. وكانت أعداد المقاتلين إلى جانبه تزداد بقدر ازدياد الخطر، مثلما بلغ الدعم الروسي له درجة حمايته من الأمريكيين عبر إلزامه بالتخلي عن الأسلحة الكيمياوية حين استخدمها على نطاق لم يكن من الممكن السكوت عليه. لاشك أن درجات العنف التي بلغتها ممارسات النظام وحلفائه في المقتلة وما نتج عنها من تصدعات لدى مختلف المكونات السورية من ناحية وتراجع الهيئات الدولية التي كانت تدعم منظمات المجتمع المدني التي كانت قد بدأت العمل في هذا المجال عن الاهتمام بهذا الجانب قد لعب دوراً حاسماً في هذا التراجع. سوى أن قرار استعادة العمل ينطوي على طابع سياسي بامتياز، ولعل هيئات المعارضة على اختلاف مؤسساتها تتخذ قرار وضع هذه الاستعادة ضمن أولى أولوياتها أياً كانت المدة الزمنية التي تستشرفها من أجل الوصول إلى نهاية النفق.
من المعلوم أن العمل الأساس القائم على التوثيق والإحصاء الذي كان يقوم به منذ البداية عدد من منظمات المجتمع المدني أو المراكز التي أسست لهذا الغرض ك”المركز السوري للعدالة والمساءلة” الذي تأسس عام 2012 بدعم أمريكي مغربي بإدارة الناشط الحقوقي محمد العبد الله، على سبيل المثال لا الحصر، لا يزال جارياً رغم الضربات التي تلقاها العديد من العاملين في هذا الحقل اعتقالاً أو خطفاً أو قتلاً سواء من قبل النظام الأسدي أو من بعض أطياف المعارضة. لكن تنسيق هذا الجهد اليوم يتطلب في الواقع قراراً سياسياً تتفق على عناصره وتتبناه في برامجها مكونات المعارضة على اختلافها كواحد من أهم أهدافها واجبة التحقيق مع بداية المرحلة الانتقالية القادمة طال الزمن أم قصر.
ولا يعني ذلك البدء من الصفر بأي حال من الأحوال. ففي شهر كانون الثاني عام 2014، اجتمع عشرون ممثلاً عن ما لا يقل عن أربع عشرة منظمة من منظمات المجتمع المدني السورية العاملة في مجال العدالة الانتقالية والسلم الأهلي ومعهم عدد من الهيئات السياسية المعارضة من أجل تأسيس “مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية في سوريا”، بوصفها هيئة مستقلة تستهدف القيام بتنسيق العمل بين المنظمات العاملة في مجال العدالة الانتقالية في سوريا، وتوثيق الانتهاكات، والقيام بالدعاية والدعم والتوعية، فضلاً عن تكوين مكتبة رقمية مرجعية لحفظ كل ما يتم وضعه من تقارير وكتب ودراسات تمسّ قضايا العدالة الانتقالية في سوريا.
لقد استطاعت هذه المجموعة بما أنجزته خلال فترة قصيرة أن تثبت جدارتها للقيام بهذا العمل غير المسبوق بل والمجهول في سوريا. ويمكن لمن شاء العودة إلى موقعها الإلكتروني كي يتعرف على أوجه هذه الإنجازات الثرية سواء في مجال البيانات والإحصائيات الخاصة بالانتهاكات التي يرتكبها النظام وسواه من الميليشيات العاملة إلى جانبه أو في مجال توثيق المجازر أو قصف المدنيين بالقنابل العنقودية والصواريخ الفراغية أو أيضاً في مجال نشر الكتب والكتيبات الموجهة لمختلف العاملين في الإعلام أو الناشطين في مجال حقوق الإنسان والتي تتحدث عن مفهوم العدالة الانتقالية وتطبيقاته مثل كتاب كاتي الحايك “إجراءات تحقيق النهج الشامل للعدالة الانتقالية في سوريا ما بعد النزاع” أو كتاب علياء الأحمد “هل ستحقق العدالة الانتقالية في سوريا العدالة للسوريات؟” أو كتاب “العدالة الانتقالية في سوريا بين المفهوم وتحديات التطبيق”.
سبق هذا النشاط ورافقه منذ تأسيسه نشاط إعلامي في الصحافة السورية الجديدة المطبوعة للتعريف بمفهوم العدالة الانتقالية ربما كان محدوداً، لكن التقارير والشهادات التي نشرتها هذه الصحافة السورية الجديدة بمختلف أشكالها تؤلف إسهاماً شديد الأهمية في مجال العدالة الانتقالية في سوريا يبنى عليه ويمكن استثماره في مختلف الميادين القضائية والقانونية فضلاً عن التاريخية.
هل يمكن أن تُهمل كل هذه الجهود؟
لقد مهدت منظمات المجتمع المدني السورية الجديدة هذا العمل الأساس وسوف يكون من الأخطاء المميتة التي يمكن أن تتحمل مسؤولياتها مختلف القوى التي تتصدر اليوم مواقع المعارضة الحقيقية للنظام الأسدي إهمال هذا العمل المنجز في مجال هذه المهمة الأساس وعدم متابعته على الصعيديْن النظري والعملي في برامجها لليوم التالي، أي اعتباراً من بدء المرحلة الانتقالية، مهما كانت هذه الأخيرة تبدو اليوم مؤجلة أو بعيدة المنال.
ذلك أن التاريخ لن يرحم من يخطئ في قراءته.
فهل يمكن الآن تناول موضوع قانوني يستهدف توطيد السلام الأهلي وردّ الحقوق الضائعة أو المعتدى عليها لأصحابها ما دامت المذابح تتوالى كل يوم بلا هوادة، ينفذها النظام عبر ميليشياته المختلفة وحلفاؤه من الإيرانيين وحزب الله وأفواج المرتزقة الأفغانيين والباكستانيين. وبشتى الوسائل: القصف بالبراميل، وبالتعذيب حتى الموت في المعتقلات، وبالذبح أو بتقطيع أوصال الجثث على مرأى من العالم كله الذي فضل الصمت بعد أن اكتشف بفضل الولايات المتحدة الأمريكية “تعقيد الأمور في سوريا”. أو ينفذها أيضاً بين الحين والآخر حلفاء النظام موضوعياً حتى لا نقول عضوياً: تنظيم الدولة ومن والاه أو ارتبط به كي ينبئ عن هويته الإجرامية ويثير الرعب في كل مكان من الأرض. أو ينفذها إضافة إلى هؤلاء من رفعوا رايات أخرى غير رايات الثورة السورية وأعلنوا شعارات وأهداف لا تمت إلى ما خرج من أجله الشعب بصلة، مشوهين بذلك مُثل الثورة وأهدافها ورايتها وكل من دفع حياته من أجل تحقيقها، مبررين أفعالهم بضرورة القصاص من النظام وأتباعه ومن والاه ناشرين صور وأفلام المجازر فخراً وترهيباً؟
تجد هذه التساؤلات مبررها، فضلاً عن كل ذلك، في ما يبدو انسداد أفق نهاية العذاب السوري بفضل أعداء الشعب السوري وأصدقائه معاً. لكنها مع ما تنطوي عليه من ضروب الخيبة وبعض اليأس تشير في الوقت نفسه إلى ضرورة قصوى تتمثل في استعادة العمل الذي سبق أن بدأ في أوساط الثوار السوريين سواء على مستوى هيئات التنسيق المحلية أو على صعيد مؤسسات المعارضة في الخارج، ثم أخذ بالتراجع تدريجياً بقدر ما بدأ طريق التحرر يبدو طويلاً.
ما الذي تغير في المشهد السوري حقاً كي يبرر تراجع الاهتمام بهذه المهمة الأساس التي لابد من الاستمرار في الإعداد لها والعمل على جعلها ضمن أولى مهام المرحلة الانتقالية التي سيتم خلالها وضع أسس سوريا الجديدة؟ كل عناصر المشهد الحالي كانت موجودة وفاعلة بهذه الصورة أو تلك: سواء الاحتلال الإيراني عبر ميليشيات ذراعيه اللبنانية والعراقية بالإضافة إلى “مستشاريه” من الحرس “الثوري” من ناحية، أو، من ناحية أخرى، الدعم الروسي عسكرياً وديبلوماسياً. كان هؤلاء وأؤلئك يتدبرون أمر دعم النظام الأسدي كلما بدا موشكاً على السقوط. وكانت أعداد المقاتلين إلى جانبه تزداد بقدر ازدياد الخطر، مثلما بلغ الدعم الروسي له درجة حمايته من الأمريكيين عبر إلزامه بالتخلي عن الأسلحة الكيمياوية حين استخدمها على نطاق لم يكن من الممكن السكوت عليه. لاشك أن درجات العنف التي بلغتها ممارسات النظام وحلفائه في المقتلة وما نتج عنها من تصدعات لدى مختلف المكونات السورية من ناحية وتراجع الهيئات الدولية التي كانت تدعم منظمات المجتمع المدني التي كانت قد بدأت العمل في هذا المجال عن الاهتمام بهذا الجانب قد لعب دوراً حاسماً في هذا التراجع. سوى أن قرار استعادة العمل ينطوي على طابع سياسي بامتياز، ولعل هيئات المعارضة على اختلاف مؤسساتها تتخذ قرار وضع هذه الاستعادة ضمن أولى أولوياتها أياً كانت المدة الزمنية التي تستشرفها من أجل الوصول إلى نهاية النفق.
من المعلوم أن العمل الأساس القائم على التوثيق والإحصاء الذي كان يقوم به منذ البداية عدد من منظمات المجتمع المدني أو المراكز التي أسست لهذا الغرض ك”المركز السوري للعدالة والمساءلة” الذي تأسس عام 2012 بدعم أمريكي مغربي بإدارة الناشط الحقوقي محمد العبد الله، على سبيل المثال لا الحصر، لا يزال جارياً رغم الضربات التي تلقاها العديد من العاملين في هذا الحقل اعتقالاً أو خطفاً أو قتلاً سواء من قبل النظام الأسدي أو من بعض أطياف المعارضة. لكن تنسيق هذا الجهد اليوم يتطلب في الواقع قراراً سياسياً تتفق على عناصره وتتبناه في برامجها مكونات المعارضة على اختلافها كواحد من أهم أهدافها واجبة التحقيق مع بداية المرحلة الانتقالية القادمة طال الزمن أم قصر.
ولا يعني ذلك البدء من الصفر بأي حال من الأحوال. ففي شهر كانون الثاني عام 2014، اجتمع عشرون ممثلاً عن ما لا يقل عن أربع عشرة منظمة من منظمات المجتمع المدني السورية العاملة في مجال العدالة الانتقالية والسلم الأهلي ومعهم عدد من الهيئات السياسية المعارضة من أجل تأسيس “مجموعة تنسيق العدالة الانتقالية في سوريا”، بوصفها هيئة مستقلة تستهدف القيام بتنسيق العمل بين المنظمات العاملة في مجال العدالة الانتقالية في سوريا، وتوثيق الانتهاكات، والقيام بالدعاية والدعم والتوعية، فضلاً عن تكوين مكتبة رقمية مرجعية لحفظ كل ما يتم وضعه من تقارير وكتب ودراسات تمسّ قضايا العدالة الانتقالية في سوريا.
لقد استطاعت هذه المجموعة بما أنجزته خلال فترة قصيرة أن تثبت جدارتها للقيام بهذا العمل غير المسبوق بل والمجهول في سوريا. ويمكن لمن شاء العودة إلى موقعها الإلكتروني كي يتعرف على أوجه هذه الإنجازات الثرية سواء في مجال البيانات والإحصائيات الخاصة بالانتهاكات التي يرتكبها النظام وسواه من الميليشيات العاملة إلى جانبه أو في مجال توثيق المجازر أو قصف المدنيين بالقنابل العنقودية والصواريخ الفراغية أو أيضاً في مجال نشر الكتب والكتيبات الموجهة لمختلف العاملين في الإعلام أو الناشطين في مجال حقوق الإنسان والتي تتحدث عن مفهوم العدالة الانتقالية وتطبيقاته مثل كتاب كاتي الحايك “إجراءات تحقيق النهج الشامل للعدالة الانتقالية في سوريا ما بعد النزاع” أو كتاب علياء الأحمد “هل ستحقق العدالة الانتقالية في سوريا العدالة للسوريات؟” أو كتاب “العدالة الانتقالية في سوريا بين المفهوم وتحديات التطبيق”.
سبق هذا النشاط ورافقه منذ تأسيسه نشاط إعلامي في الصحافة السورية الجديدة المطبوعة للتعريف بمفهوم العدالة الانتقالية ربما كان محدوداً، لكن التقارير والشهادات التي نشرتها هذه الصحافة السورية الجديدة بمختلف أشكالها تؤلف إسهاماً شديد الأهمية في مجال العدالة الانتقالية في سوريا يبنى عليه ويمكن استثماره في مختلف الميادين القضائية والقانونية فضلاً عن التاريخية.
هل يمكن أن تُهمل كل هذه الجهود؟
لقد مهدت منظمات المجتمع المدني السورية الجديدة هذا العمل الأساس وسوف يكون من الأخطاء المميتة التي يمكن أن تتحمل مسؤولياتها مختلف القوى التي تتصدر اليوم مواقع المعارضة الحقيقية للنظام الأسدي إهمال هذا العمل المنجز في مجال هذه المهمة الأساس وعدم متابعته على الصعيديْن النظري والعملي في برامجها لليوم التالي، أي اعتباراً من بدء المرحلة الانتقالية، مهما كانت هذه الأخيرة تبدو اليوم مؤجلة أو بعيدة المنال.
ذلك أن التاريخ لن يرحم من يخطئ في قراءته.
القدس العربي