الحرب التي لم تراع حرمة نساء ولا ضعف كبار ولا براءة أطفال، لا يتوقع أن تراعي حرمة شهر مبارك أو فرحة عيد.
رسائل الموت التي لم تفرق بين مدنيين وعسكريين، أو بين مستشفى وثكنات عسكرية، والتي تابعنا فصولها على مدى خمس سنوات أو يزيد تخبرنا أنه لم توجد في أي وقت من الأوقات هدنة كاملة، ولم يحدث أن راعى القاصفون والمحاربون قدسية زمان أو مكان.
الجميع سيستمر بقصف الجميع ولن يتوقف هذا حتى لا يسمح أي طرف لأعدائه بالتقدم. هنالك الأمريكيون الذين يحاربون «داعش»، بزعمهم، وهناك الروس الذين يقصفون التنظيم وغيره من التنظيمات التي يصنفونها متشددة. هناك المجموعات الكردية التي تحمل مشروعاً مغايراً تماماً، وأخيراً الأوروبيون الواصلون حديثاً، والذين يرغبون في أن يكون لهم موطأ قدم عسكرية على الأرض السورية. كل ذلك إضافة للطرف الأصيل المتمثل بالجيش السوري، وكتائب إيران وميليشياتها الطائفية، التي تتحجج بوجود العشرات أو المئات من العناصر الإرهابية في مكان ما لاستباحته وتخريبه وإرهاب مدنييه بأكثر مما يفعل تنظيم الدولة.
رائحة الموت تملأ المكان، وصوت بكاء الأطفال يؤرق أصحاب الضمير الحي في كل مكان حول العالم. البحث عن سلام يصبح أملاً بعيد المنال، فبخلاف دائرة الحرب الأولى بين المعارضة المسلحة والنظام، ولدت دوائر أصغر على شكل صراعات جانبية بين المجموعات المعارضة، خاصة الإسلامية التي تحارب نفسها بشكل عبثي وتجرف المدنيين في طريقها.
اليوم ظهرت دائرة أخرى، حيث لم يعد الخلاف العسكري مقتصراً على المجموعات السنية المقاتلة، بل بدأ الخلاف يدب بين المجموعات الطائفية الشيعية، التي تقاتل مع النظام السوري والتي تدعمها إيران. هذه الجماعات بدأت تظهر ولاءات مختلفة وتقود معارك بينية للانفراد بالسيطرة حيناً وبالغنائم حيناً.
على بعد خطوات من ذلك الحريق سيفرح الناس بالعيد، وسينشغلون باختيار الهدايا المناسبة لأبنائهم وأحبائهم. سيتناولون أنواعاً مختلفة من الحلوى وسيرقصون على أنغام برامج الموسيقى على الإذاعة والتلفزيون. من لم ينس بعد سيحاول النسيان، فالوقت للمرح والفرح وليس وقت التذكير بمآسي «الآخرين» التي لا تنتهي.
سنصلي العيد. الخطب الباردة نفسها ستتكرر مجدداً في أكثر من مكان. تلك الخطب التي تحاول الابتعاد عن أسئلة الحاضر وعن مرارات الواقع وعن إغضاب الكبار. سيتذكر قليل من الخطباء أن يدعوا لأخوتهم في سوريا، فالظرف السياسي صار مغايراً، ولم تعد معظم الأنظمة الرسمية جادة في تخليص سوريا من مجرمها الذي يبدو وكأنه انتصر على الجميع.
لقد انتهى عهد الخطب الحماسية التي كانت تقطر ألماً والتي كانت تصدر عن علماء كبار طالما حرضوا بمرارة على الاحساس بمأساة الشعب السوري وضرورة تخليصه من بين يدي جلاده. أولئك العلماء صمت معظمهم الآن بشكل غامض.
لن نظلمهم ونقول إنهم لم يكونوا صادقين ابتداء، وأنهم إنما يتحركون وفق لوحة أزرار حكوماتهم التي تدير تحركاتهم كما يدير اللاعب الماهر مسرح العرائس. لن نقول ذلك، لكن من الواضح أن المزاج السياسي للحكومات قد تغير.
تلك التي ظنت لوهلة أن الأسد ساقط لا محالة، وأن انهيار نظامه وشيك فأرادات تسريع هذا السقوط بحشد المشاعر لإثبات أن تلك قضية عادلة تستحق المساهمة بالنفس والمال والدعاء. ذلك المزاج الثائر تغير في معظمه الآن بعد أن اكتشف «ولاة الأمر» في أكثر من بلد أن الأمر أعقد من ذلك، وأن سوريا ليست العراق الذي ستجتاحه القوافل الأمريكية، وليست ليبيا التي سيتدخل فيها الناتو ليحررها ويحمي مدنييها. انتبهت الدول التي خشيت أن تتورط أكثر في وحل قضية معقدة وانتبهت الأنظمة التي وجدت نفسها تدعم تسويات قد تضر بها وبمصالحها. هذه الانتباهة المفاجئة جعلتها تسارع لضبط خطابات التضامن والغضب، ليس فقط هذا، بل لوقف جميع أنواع دعمها للثوار الذين أوهمتهم للحظة أنها معهم إلى النهاية.
على مدى السنوات تخلف الكثيرون عن الركب وظهر عشرات على حقيقتهم السوداء. ظهر الشامتون في الموت والذين يضحكون على مأساة الأطفال أو على جوع المحاصرين. ظهر الذين لا يكتمون فرحهم بصور الدمار والمقابر بل ينشرونها ويعلنونها على الوسائط والمنابر. أدباء وفنانون ومفكرون طالما وثقنا بهم وبإحساسهم المرهف قبل أن نكتشف وقوفهم مع الجانب الخاطئ وتحريضهم على مزيد من القتل والتشريد والدمار.
في العيد الذي نستغله للاستجمام والراحة لن تكف قنوات الأخبار عن تذكيرنا بأن فرحتنا ناقصة بما ستنقله لنا من أخبار عن الموت والقصف، وستواصل البث الحي لمسلسل الدم السوري ومسلسل الفرار الكبير عبوراً عبر البحر لأوروبا لا بحثاً عن حياة أفضل ولكن بحثاً عن حياة، أي حياة. اللاجئون في كل مكان ولن يكون وصولهم إلى بلد جديد نهاية مأساتهم. لن يرحم أحد إلا القليل ضعفهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، فمن استغلال الأطفال باسم العمل والنساء باسم الزواج إلى الاستغلال الصريح والإجبار على العمل في الشبكات المشبوهة للتهريب والدعارة ينتهي مصير عدد كبير من اللاجئين في أكثر من بلد.
يقولون إن هناك ملايين الناجين الذين وصلوا بسلام إلى مرافئ دافئة. هذا يعتمد على المقصود من كلمة «نجاة» فهل يعتبر من فقد عائلته ناجياً، أو من فقد منزله ومدخراته وعمله وتاريخه؟ أو ذلك الطفل الذي شاهد بعينيه مناظر الدمار والقتل والحريق؟ هل يعتبر اليتيم ناجياً والثكلى ناجية؟ نحن ما زلنا حين نعد المصابين نتحدث عن المصابات العضوية والجسدية.
ربما تتوقف المفاوضات للعيد، فالطرف الأول، وهو النظام، يريد أن يتفرغ في إطار سوريا التي يحكمها للاحتفال بالعيد، أما الطرف الآخر الذي يمثل، افتراضاً، الثوار فقد طلب منه الخروج من مكان انعقاد المفاوضات لأنه لا يمثل الشعب السوري بشكل كاف. عليه أن يخرج، كتلميذ معاقب، ويعيد تشكيل نفسه بشكل يجعل المفاوضات مجدية ومقبولة لجميع الأطراف وحبذا لو استشار في ذلك أوساطاً محايدة وحريصة على مصلحة السوريين كالولايات المتحدة وإيران وروسيا التي اقترحت بالفعل بعض الأسماء والأطراف التي يمكنها أن تشارك بفعالية في الوصول لحل سياسي شامل.
في الأسبوع الماضي وخلال الإيجاز الصحافي للبيت الأبيض سأل أحد الصحافيين سؤالاً مباشراً وهو: لماذا لا تتدخل الولايات المتحدة وتضرب نظام الأسد وتنهي الأزمة؟ المتحدث باسم البيت الأبيض أجاب حينها قائلاً إن بلاده لا تملك شرعية لانتهاك السيادة السورية، وأن ضربة مثل هذه قد تؤدي لدخول البلاد في دوامة من العنف والفوضى.
المأساة هي أن المتحدث باسم البيت الأبيض لم يتفوه بذلك على سبيل النكتة.
القدس العربي – مدى الفاتح