لا تجد إليزابيت بيكار ما هو أولى من العنف بصدارة العوامل التي صاغت العلاقة اللبنانية السورية في نصف قرنٍ انقضى بين أواسط القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الجاري. كان العنف سيّداً، في هذه المدّة، بما هو أسلوب للعلاقة بين الدولتين وبما هو تغليب للقوّة على القانون وبما هو إرساء لاقتصادٍ افتراسي سيطر عليه حملة السلاح وبما هو ثمرة في العلاقات الاجتماعية لتأويلها بلغة العداء بين هويّات. ولم يكن مسارا البلدين متشابهين ولكنّهما تداخلا إلى حدّ الاستواء في نظام واحد والانخراط، وهما في حال التداخل ذاك، في النظام الإقليمي.
تنتظم هذا التحليل البيكاري ثلاثة تصوّرات هي «السيادة» و»الأمن» و»العنف». ولكن الأخير هو ما يقبع في قلب ديناميّات العلاقة الثنائية وهو ما يستوي «صَرْفاً ونحواً» للاجتماع هنا وهناك وكاشفاً للسياسة بما هي «مواصلة للحرب بوسائل أخرى» بخلاف عبارة كلاوسفيتس التي استوقفت ميشال فوكو بعد قلبها رأساً على عقِب.
وليس أقلّ ما تفعله الحرب أنها تحوّل الاقتصاد بعمومه وعلاقات الإنتاج على الخصوص إذ تطلق العنان لنموّ القطاع غير النظامي وتبيح الفساد الكبير الذي يتحكّم فيه أهل السلاح أيضاً وتستدرج، في المواجهة، نشوء إستراتيجيات شعبية مدارها البقاء. تعبث الحرب بالمراتب الاجتماعية أيضاً فتخفض وترفع وتنشئ علاقة متفاوتة بالسلطة وبالعدالة تضع فَعَلة العنف في القمّة وتمكّنهم، إلى هذا الحدّ أو ذاك، من إلحاق الجهازين الديني والثقافي بركابهم. هذا التغيير العميق في المعايير الاجتماعية يأتي موعوداً ببقاء مديد وتصبح معه القطيعة مع دولة القانون عسيرة المعالجة ويسود لتبرير الممارسات المستجدّة خطابُ الذاكرة القائم على إبراز موقع الضحية التاريخي وطلب الثأر.
تباشر بيكار تتبعّها لوطأة الحرب هذه على العلاقة السورية اللبنانية بمقارنة بين البلدين تواجه ما بين المعالم الرئيسية لهذه ولتلك على أصعدة الأرض والسكّان والدخل والنموّ… ولا غرو أن تختتم هذه المقارنة بالمعطيات المتعلّقة هنا وهناك بالقوّات المسلّحة. ولا غرو أيضاً أن تظهر جليّة حدّة التفاوت في القوة بين الدولتين. ولكن هذا التفاوت تعوّضه شيئاً ما، في ما ترى المؤلّفة، فاعلية استثنائية للقوّة «الناعمة» في الحالة اللبنانية.
تتمثّل هذه القوّة في ما يتمتّع به النموذج اللبناني من جاذبية ثقافية بالمعنى الأعمّ أي، على الخصوص، بما هو أسلوب حياة رخيّة لا يناظرها في الدنيا العربية لجهة مسايرة التنوّع ووفرة المبادلات الاجتماعية سوى مكانة التمتع في الحياة المغربية. وهو ما جعل قادة القوّات السورية التي طالت مرابطتها في لبنان يقلقون على عناصرهم لا من اعتياد التجاوز على الحقوق ومن الفساد بل من الرخاوة اللبنانية.
وهو ما جعل القوّة السورية أيضاً تعمد إلى وضع حدّ قطعي لحالات لبنانية اكتسبت وهجاً غير متناسب ومقتضيات السيطرة السورية وأبرزها حالتا كمال جنبلاط ورفيق الحريري.
وأما السيادة بما هي مدار نزاع في العلاقة السورية اللبنانية فينبغي إدراج مصيرها، في العقود الأخيرة، في مسارٍ يتجاوز الدولتين. لا بدّ للسيادة من مقوّمات موضوعية أهمّها الحدود الثابتة والإدارة المستقرّة والهويّة المواطنية. ولكن تعاظمت الحاجة إلى احتساب الدلالات التي يسبغها الفاعلون الاجتماعيون على هذه المقوّمات في مبادلاتهم المختلفة. وهو ما يسوّغ للمؤلّفة اعتبار السيادة حالةً «ذاتية» أيضاً يتحوّل التعلق بها بما هي كذلك.
ولمقاربة إشكالية السيادة هذه تختار المؤلّفة ثلاثة تشكّلات تتقدّم فيها العلاقة السورية اللبنانية. الأوّل في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي وقد اندرجت هذه العلاقة في أثنائه في التجاذب الأمريكي المصري لموازين الشرق الأوسط وهذا في ظلال الحرب الباردة. والثاني في مطلع السبعينات أي بعد أن أصبحت الأرض اللبنانية محلا للتنازع بين الكفاح الوطني الفلسطيني والمطامح السورية. وهو ما أفضى بالعلاقة بين كلّ من هذين الطرفين ولبنان إلى علاقة أكثر نزاعية وأكثر حميمية في آن.
وهذا في ظرف تنازع الدولتين العظميين للقواعد والموارد وتعاظم أهمّية الشرق الأوسط. وهو ما أفضى إلى توزّع إجماليّ للنخب، في الإقليم، ما بين نوعين من الأنظمة: «اشتراكية» و»محافظة». وأما التشكل الثالث فوافق نهاية حرب لبنان في آخر الثمانينيات وذلك في مناخ دولي تبدّل تبدّلاً جذريّاً وأفضى تبدّله إلى فتح أفق لمفاوضات فلسطينية إسرائيلية وإلى تهميش القوّة العراقية. وهو ما انتهى أيضاً إلى إرساء وصاية سورية على لبنان كان لها وجه السيطرة العسكرية الفجّة وكان لها أيضاً وجه تمثّل في مكاسب اقتصادية بقيت حتى ذلك الحين غير مأمولة.
تخصّ المؤلّفة كلا من هذه التشكّلات بصفحات تبدي تغيّراً حصل من حالة إلى حالة في «صيغة تأطير العلاقة الثنائية بالإطار الدولي». وهذه مقاربة تظهر ما لكلّ من هذه التشكّلات من فرادة وتوضح ملامح الأفق الذي دخل فيه. فبينما حُسمت أزمة 1958 اللبنانية على وجه السرعة في أعقاب الانقلاب العراقي بفعل التفاهم الأمريكي المصري، وذلك في ظرف الهيمنة الناصرية على سوريا، تفاعلت الأزمة اللبنانية أيضاً من عام 1973 إلى عام 1976 على نحو أنشأ علاقة «سلطانية» بين ساسة لبنان وحكّام دمشق. وقد أصبحت هذه العلاقة، بحكم تقبّلها الدولي، أشدّ وقعاً، في ما ترى المؤلّفة، على السيادة اللبنانية من الضربات الإسرائيلية ومن الاجتياح الإسرائيلي.
ففي ما يتعدّى محو الحدود بين الدولتين السورية واللبنانية بالدبّابات أدّت مصادرة الحقّ اللبناني في تقرير المصير إلى إنشاء «مجالٍ تَذاوُتيّ» اختلطت فيه السيادتان على تفاوت وطّد خضوع إحداهما للأخرى. وأمّا تشكّل ما بعد الحرب اللبنانية فقد شهد تشدّداً سوريّاً أصبح «تلازم المسارين» عنواناً له وذلك بعد أن لم يبق في يد دمشق غير «الورقة» اللبنانية للضغط والمقايضة في موسم التفاوض.
وكان للتشدّد السوري، فضلاً عن وجه التعسّف السياسي، وجه اقتصادي تكرّس له بيكار فصلاً بالغ الأهمّية هو الخامس من كتابها. على أننا قبل الإفضاء إلى محتوى هذا الفصل، نرى فائدة في إبراز ملاحظات احتوتها الصفحات التي سبقته، وهي عيّنة من حصاد النظر الثاقب ومن القدرة على إجمال لوحة جامعة أو انعطاف كبير في كلام قليل. مثاله تعيين العام 1957 على أنه عام «انقلاب القوّة» الذي باشر نقل سوريا من حال «الموضوع» للصراع الدولي على الشرق الأوسط إلى حال «القوّة الإقليمية» الناشئة.
هذا الانقلاب الذي كان الدور السوري في أزمة 1958 اللبنانية من «منجزاته» الأولى، لم يدرأ طفرات عنيفة نزلت بسوريا من الوحدة مع مصر إلى الانفصال فإلى سلطة البعث وما شهدته من صراعات قبل الإفضاء إلى العهد الأسدي. هذا الأخير اجتاز بدوره مرحلة اضطراب وقمع مهولين، فضلاً عن تدخّله في النزاع اللبناني وعن حرب تشرين 1973… قبل أن يستتمّ إطباق قبضته الحديدية على البلاد… بل على البلدين معاً. مثال ثانٍ ملاحظة المؤلّفة أن أيّ قياديّ لبناني من الصفّ الأوّل لم يثبت على ممالأة الدور السوري أو على معارضته مدة الأعوام الـ15 التي استغرقتها حرب لبنان.
مثالٌ ثالث أن تكوين المجتمع اللبناني ظلّ يستبعد وجود قائد يسعه أن يملي خطّاً استراتيجياً واحداً في السياسة وفي الحرب في حين كانت القوّات السورية ومعها وحدات جيش التحرير الفلسطيني منضوية تحت الإمرة الصارمة لقيادة تنتهي إلى الرئاسة السورية. إلخ.
ما قول بيكار بعد هذا في الاقتصاد السياسي للسيطرة السورية على لبنان بعد مرحلة الحرب، على الخصوص؟ نكرّس لهذا الجانب من علاقة السيطرة عجالتنا المقبلة.
القدس العربي – أحمد بيضون