تتعقد الأزمة بين أنقرة وواشنطن بشكل متسارع في ظل تصاعد التهديدات الأمريكية بفرض مزيد من العقوبات على تركيا وتعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعدم دفع أي ثمن مقابل إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برانسون، وإصرار الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على التعامل بندية مع واشنطن وتطبيق سياسة «الرد بالمثل» على العقوبات الأمريكية.
وبينما تحاول الحكومة التركية السيطرة على الأزمة الاقتصادية من خلال حزم متلاحقة تتضمن تشديد السياسات المالية في البلاد، ما زالت الليرة تشهد اضطرابات متسارعة هبوطاً وصعوداً بفعل استمرار التهديدات الأمريكية بفرض مزيد من العقوبات ما يجعل أوضاع الاقتصاد مفتوحة على كل الاحتمالات.
تهديدات متبادلة
ومع انعدام أي مؤشرات على حل سياسي قريب للأزمة تتصاعد التهديدات الأمريكية بفرض مزيد من العقوبات على أنقرة التي تؤكد التزامها القوي بسياسة «الرد المثل» وهو ما ينذر بمزيد من التصاعد للأزمة سياسياً واقتصادياً بين الحليفين في حلف شمال الأطلسي «الناتو».
ورداً على تهديد وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين من أن الولايات المتحدة ستفرض عقوبات إضافية على تركيا إذا لم تفرج عن القسّ أندرو برونسون، توعدت وزيرة التجارة التركية روهصار بكجان بالقول: «ردنا على (العقوبات الأميركية) كان بما يتّفق مع قواعد منظمة التجارة العالمية وسنستمر في القيام بذلك».
وبعد أن اعتبر ترامب أن تركيا «لم تثبت أنها صديق جيد. يحتجزون قساً مسيحياً عظيماً وهو رجل بريء»، كشف عن أن «الولايات المتحدة ساهمت بالإفراج عن تركي مقابل الإفراج عن برونسون لكن تركيا لم تلتزم بذلك»، في أول تأكيد أمريكي لتسريبات سابقة تحدثت عن مساهمة ترامب في الضغط على إسرائيل للإفراج عن الناشطة التركية إيبرز أوزكان قبل أسابيع.
وقبيل ذلك بساعات أيضاً، اعتبر ترامب أن «تركيا استغلت الولايات المتحدة لسنوات. إنهم يحتجزون قسنا المسيحي الرائع الذي سأطلب منه الآن أن يمثل بلدنا كرهينة وطني». وأكد ترامب «لن ندفع شيئا لقاء الإفراج عن رجل بريء».
الثمن المطلوب
يجمع مراقبون على أن الأزمة تفجرت بشكل أساسي بسبب إصرار تركيا على الحصول على ثمن مقابل الإفراج عن القس الأمريكي وهو ما رفضته الإدارة الأمريكية بشكل غير رسمي، قبل أن يؤكد ترامب ذلك بالإعلان عن أنه لن يدفع أي ثمن مقابل الافراج عن القس، الأمر الذي عقد الأزمة بشكل غير مسبوق.
ولا تبدي أنقرة مواقف مبدئية حادة برفضها المطلق الإفراج عن القس، لكن الرئيس التركي يرغب في الحصول على ثمن من الإدارة الأمريكية. وبعد أن اقتنعت أنقرة باستحالة استجابة ترامب لمطالبها بتسليم فتح الله غولن مقابل القس، تركزت المطالب التركية حول إغلاق التحقيقات في ملف خرق العقوبات الأمريكية على إيران والإفراج عن نائب مدير «خلق بنك» التركي هكان أتيلا.
مصادر أمريكية وتركية تقول إن المفاوضات يمكن أن تعود في أي لحظة، وأن الاختلاف الأساسي كان ولا يزال حول رفض أنقرة البدء بالإفراج عن برونسون دون الحصول على ضمانات أمريكية نهائية بالإفراج عن أتيلا، حيث اقتصر العرض الأمريكي حتى الآن على تقديم وعود ببحث الطلب التركي بإيجابية في حال الافراج عن القس.
الصمود في وجه العقوبات الأمريكية
ومع تعقد الأزمة، تعمل تركيا بشكل متسارع من أجل الخروج بأقل الخسائر واحتواء الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية التي يهدد ترامب بتوسيعها، وذلك من خلال سلسلة طويلة من الإجراءات التي لم تتمكن حتى الآن من تحقيق الاستقرار في الأسواق المالية وسعر صرف العملة التركية التي فقدت أكثر من 40 في المئة من قيمتها خلال الأسابيع الأخيرة.
أبرز هذه الإجراءات تمثلت في قيام البنك المركزي التركي بتشديد السياسة النقدية ووقف التقلبات الحادة في سعر صرف العملة، إلى جانب فرض وكالة التنظيم والإشراف المصرفي قيوداً على تعاملات البنوك لمبادلة النقد الأجنبي، وخطوات أخرى ساهمت في تهدئة الأسواق قليلاً والسيطرة على التقلبات جزئياً دون أن تتمكن بعد من تحقيق الاستقرار الكامل.
وفي خطوة لافتة، أعلنت قطر نيتها استثمار 15مليار دولار بشكل مباشر في تركيا عقب لقاء جميع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني مع الرئيس التركي في العاصمة أنقرة، في أكبر رسالة دعم من دولة عربية لأنقرة في وجه العقوبات الأمريكية، وهي الخطوة التي ساهمت في تحسين قيمة العملة التركية ولو لفترة محدودة.
وفي السياق ذاته، جرت اتصالات هاتفية بين اردوغان ووزير ماليته والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ووزيري ماليتهما وذلك في أربع مباحثات هاتفية منفصلة أكدت جميعها على وقوف فرنسا وألمانيا إلى جانب تركيا في أزمتها، في رسالة دعم أظهرت رغبة أوروبية قوية في منع دخول تركيا في أزمة اقتصادية حادة يمكن أن تنعكس سياسياً واقتصادياً وأمنياً بالسلب على القارة الأوروبية.
وسعت تركيا لإظهار تنوع خياراتها بسلسلة من الزيارات والاتصالات التي هدفت إلى التأكيد على توسيع التعاون الاقتصادي وتعزيز التبادل التجاري مع روسيا والصين وإيران والعراق وغيرها من الدول التي ترفض الخطوات الأمريكية.
لكن جميع الخطوات السابقة، وعلى الرغم من أنها ساهمت في السيطرة على هبوط العملة نسبياً، ويمكن أن تخلق بديلاً للسوق الأمريكي في تصاعد العقوبات، ولكن على المدى البعيد لن تتمكن من إنهاء المخاوف من تعمق الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد ويتوقع تفاقمها.
تحدي الديون
تعتبر الديون الخارجية أبرز التحديات التي تواجه تركيا بفعل الأزمة الأخيرة، حيث ارتفعت تكلفة سداد الديون المقومة بالدولار واليورو ما يزيد من قيمتها بشكل كبير جداً ويرفع قيمة الفوائد المدفوعة لها من قبل الحكومة والقطاع الخاص على حد سواء.
وحسب تقديرات غير رسمية، فإن الحكومة والقطاع الخاص في تركيا لديهم ديون بقيمة تصل إلى 400 مليار دولار إلى مؤسسات مصرفية حكومية وخاصة حول العالم، منها قرابة 180 مليار دولار ديون قصيرة الأجل يتوجب سدادها بالعملة الصعبة، منها قرابة 3.8 مليار دولار يستحق دفعها في تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وهي مبالغ زادت تكلفتها بنسبة تصل إلى الربع بسبب انخفاض قيمة العملية التركية أمام الدولار واليورو.
وبينما يرفض اردوغان بشكل قطعي الاستدانة من البنك الدولي، ويرفض رفع جديد في أسعار الفائدة، فإن الحلول التي تسعى لها الحكومة التركية تتمثل في زيادة المدخولات بالنقد الأجنبي من خلال تعزيز السياحة وزيادة الصادرات وتعزيز الصناعات الوطنية وغيرها من الإجراءات التي بدأت فعلياً في تطبيقها.
ويستبعد اقتصاديون قدرة هذه الإجراءات على حل المشاكل قصيرة الأمد المحدقة بالاقتصاد التركي، وتؤكد الحكومة أنها «ستخرج أقوى من هذه الأزمة» لكن وفي ظل عدم وجود أفق لحلول سياسية يمكن أن تقلل الآثار السلبية على الاقتصاد فإن الباب يبقى مفتوحاً على جميع الاحتمالات.
القدس العربية