٤٠ دقيقة وأنت مستلقٍ على ظهرك، في مكان مغلق مظلم شديد البرودة..
هو لحدٌ حجازي لولا أن الكفن أخضر أو أن الوجه ولّى شطر المسجد الحرام..
ممنوعٌ كل شيء ومن الشيء أن تتحرك، صمتٌ مريب لا يقطعه إلا صوت رنينٍ تحسبه لشدة الخوفِ زئيرا..
تقول فاطمة من مدينة كفرنبل ذات 26 ربيعاً: لم أتخيل أن الأمر صعبٌ لهذه الغاية، ولم أكن أعلم أن الإنسان يمكن أن يموت ويدفن مرتين..
“تأكدوا من تنفسها والأكسجة” آخر ماسمعته من كلام البشر، كانوا يقولون جاهزة نعم جاهزة وليتني لم أكن..
أُدخلتُ غياهب ذاك المكان الضيق وبدأت الوحشة تسلل إليّ فتلاشى جميع أُنسي..
بدأ ينفد صبري، فلا ملكين يأتيان يسألاني، ولا روضةٌ أستلذُّ بنعيمها، وبدأ القلب المنهك يتسارع في دقاته، بدأت أحاول رفع جسدي التعب المثخن بطعان الأمراض وأخرج!!
كيف أخرج؟؟
ومن قال أن الأعمار غير مكتوبة وأن الانتقال بين البرزخ والدنيا أمرٌ هيّن؟؟
عندها استسلمتُ لأزلِ القضاء وتدبير القدر..
وبدأت أقرأ ما حفظتُ من آيات كتاب الله، وأنا مستلقيةٌ لا أسمع سوى أصواتِ آلاتهم تختلطُ بأصوات عذاب الذكريات المؤلمة، التي طالما كنت أكبتها، انتهزتْ سكراتِ موتي فعاثت فسادا في أذناي وخاطري..
لم أر شيئاً مابال الميت يحرمونه حتى من فتح عينيه؟
بدأت أسابق الملكين وأقرأ من القرآن ما تيسر، لكن الذاكرة خانتني في أسوء حال، عقد الله لساني، هذا هو حال أهل البرزخ، ينسون إلا ما ماتوا عليه، أو أنطق الله جوارحهم به..
تذكرت أن الإلحاح بجلب الذكرى للعقل يزيد في نسيانها..
انتابني خوف شديد علم به اللّه وحده..
بدأ المكان يضيق أكثر، كيف سأنتظر فيه دهراً؟
حتى يشاء اللّه ويبعث من في القبور..
أخرجني حينها الأطباء من جهاز الرنين المغناطيسي في مركز التصوير مدنية سرمدا، مشخّصين مرضاً عجزوا عن تشخيصه إلا في هذه الحفرة الضيقة..
أيقظوني وأيقظوا معي أفكارا ومشاعر كقبورٍ نبشت كادت تندثر بطول الزمن!
بدأت أتأمل: إن كان هذا حالي الآن..
فكيف حالي يوم السؤال الأكبر ويوم العرض بين يدي الله؟!
كيف لي أن أقف في صفوف الحافظين، هم يقرأون ويرتلون وينالون اعلى مراتب الجنة، بينما أنا كنت غافلة مشغولة في حياة بالية، لم أكترث إلى ما وهبنيَ الله..
حينها..
شعرت أن الله اصطفاني يُذكّرني بيوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم..
أيقنت أنها البداية الحقيقية..
وأن عمري احتسب بعد هذه اللحظة التي خرجت بها باكية كيوم ولدت..
وأن الله أيقظني لأعمل ليوم أكون فيه إذا بكوا في يوم موتي ضاحكةً مسرورة..
وعلمتُ أن الدنيا فرصة، والعمر فرصة، وأنه لا يوجد ضمان للبقاء، ثبّتوا محفوظكم، أتقنوا القرآن واجمعوه في صدوركم ولا تهملوه قبل أن يفوت الأوان وترفع المصاحف وتخرج الأرواح من أجسادها، فبين موتك ونسلك من الأجداث ليس إلا ماعملت في دنياك..
ولا ينفع حينها ندمٌ ولا حسرة..
اللهم قلباً حياً بذكرك وشكرك، وخاتمةٌ حَسَنَة بعملٍ صالحٍ ترضاه..
قصة خبرية/ فاطمة السويد
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع