إن الهجمات الآخيرة، كالمجزرة التي وقعت في باريس، تخلّف وراءها وقتاً عصيباً لإيجاد سياسات جديدة؛ إلا أنها توجد ظروفاً سياسية مثالية للحكومة لاتخاذ مبادرات متطرفة، إذا لم تُدرس بعناية. فشعور فرض الهيمنة يعصف بالقادة، مثل القلق أو الخوف من مطالبات عامة الشعب، والتي هي أشياء ينبغي على الحكومة القيام بها رداً على الكارثة أو في محاولة منها لمنع حدوث هذه الكارثة مرة أخرى. إن لحظة الخطر الأعظم ليست عندما تنفجر القنابل أو تطلق البنادق نيرانها، وإنما تكمن في ردة فعل الحكومات على هذه الفظائع.
يهدف الإرهاب، في المقام الأول، إلى إظهار التحدي، وانتقامه الشديد، وقواه الجلية. وحتى يحقق مراده، فإنه يحتاج إلى استثارة ردود فعل سيئة مبالغ فيها يقوم بها المستهدفون. وهذا الشيء يؤتي أكله دائماً. ولعل أعظم نجاح حققه الإرهاب هو ما قام به الخاطفون في 11 سبتمبر، فلم يكن النجاح فقط بتدمير مركز التجارة العالمي، وإنما إغراء الولايات المتحدة الأمريكية بشن حروب في كل من أفغانستان والعراق، التي فشلت في تحقيق المراد منها، وهي ما تزال مستمرة حتى الآن.
تخبطت بريطانيا في الحرب في أفغانستان والعراق، وراء الأمريكان، وتخبطت، كذلك، في انسحابها من تلك الحروب، بعيداً عن إظهار تضامنها مع حليفتها أمريكا، بدون معرفة أدنى فكرة عما كانت تعمل هناك. والنقاش الدائر اليوم في بريطانيا حول التدخل العسكري في سورية ضد داعش، هو أكثر وعياً مما كان عليه خلال التدخل في العراق أو أفغانستان، ولكن لا يزال هناك الجهل نفسه، تقريباً، حول ساحة المعركة التي نحن على وشك الدخول فيها. ولا شك أن المساهمة العكسرية البريطانية المقترحة في سورية سوف تكون محدودة، إلا أن وضع إصبع واحد في حفرة ثعبان له نفس خطورة القفز في منتصف تلك الحفرة.
وقد وصف أحد المعلقين الصراع في سورية بأنه أشبه ما يكون بلعبة شطرنج ثلاثة الأبعاد، بتسعة لاعبين، ليس لها قواعد معروفة. ولعله أضاف أن الوضع في العراق هو الأكثر سوءاً. ولكن، وعلى أحد الأصعدة، فإنه ليس من الصعب فهم المعضلة التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وقوى غربية أخرى في شن غارات جوية لتمزيق داعش والقضاء عليها. فهم يعرفون أن أكثر من ثمانية آلاف غارة جوية شنتها قيادة التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد الخلافة المزعومة، منذ العام الماضي، قد فشلت في احتواء المشكلة، وهذا ما ظهر جلياً، وبشكل مرعب، في أنقرة وبيروت وبغداد وسيناء وباريس. وهم يدركون أن القوة الجوية لوحدها ذات إنجاز محدود، ما لم يكن هناك قوة عسكرية فعالة على أرض الواقع تساندها.
أما أولئك الذين اقترحوا، وبعبارات مرعبة جاهزة، تدخل قوات برية، أمريكية أو بريطانية أو فرنسية، على الأرض، بشكل جدي، فإنه من الواضح أنهم لم يقرأوا الأخبار على مدى الـ 15 سنة الماضية، أو لم يلاحظوا ما حدث في العراق وأفغانستان. وعلى أي حال، فإن الرأي العام السائد في الولايات المتحدة وبريطانيا يشير إلى أنه من غير المحتمل أن يسمحوا لقادتهم بإرسال المزيد من قوات التدخل السريع إلى منطقة الشرق الأوسط. والأرجح هو استخدام طائرات من دون طيار وقوات خاصة لاغتيال قادة داعش، رغم أن التخلص من هؤلاء القادة لن يفعل شيئاً لإضعاف الحركة ككل، إذا ما رجعنا إلى التجربة السابقة. فالغرض الرئيسي من عمليات القتل هذه والقصص هو لإضافة مادة ما إلى التظاهر بأن شيئاً فعالاً يحدث.
طالما أن القوى الغربية لن ترسل قوات برية، وطالما أن الضربات الجوية لن تجدي نفعاً لوحدها، فإنه من الواضح أن هناك ضرورة لإيجاد حليف محلي. وهنا تكمن مشكلة سياسية كبيرة. فأكبر القوى العسكرية المقاتلة في سورية هي الجيش السوري، كما أشار الاسبوع الماضي، البارون ريتشاردز، وهو قائد بريطاني سابق في هيئة الأركان العامة. وهذا الأمر فوق طاقة الجيش السوري، ولكنه يمتلك أربع فرق قتالية فعالة. ولطالما كانت هناك أسطورة تقول بأن الجيش السوري لا يقاتل داعش، كما ثبت من أفلام الرعب التي ينشرها الجهاديون على موقع اليوتيوب، والتي تظهر الجنود السوريين الأسرى وقد قطعت رؤوسهم. ولكن الولايات المتحدة تتجنب، وبشكل مدروس، توجيه ضربات جوية لداعش، عندما تكون داعش في حالة قتال مع الجيش السوري، مخافة أن تتهم أمريكا بمساعدة الرئيس السوري على البقاء في السلطة.
إن بداية الحملة الجوية الروسية لدعم الجيش السوري في 30 ايلول، قد جعلت التوازن العسكري يميل لصالح الجيش السوري ضد داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام، وهي أكبر ثلاث جماعات تنتهج نهج القاعدة، وتشكل عصب المقاومة المسلحة في سورية. إلا أنه من السابق لأوانه التكهن لأي مدى قد مال التوازن العسكري. فالجيش السوري قد خسر 47 ألف من مقاتليه خلال عملياته؛ إضافة إلى فقد 31 ألف من قواته الشبه عسكرية خلال الأربع سنوات الماضية، التي أنهكته واستنفدت قواه.
إن الدعم الروسي قد رفع من روح الجيش السوري المعنوية، إلا أن ضعفه السابق لا يزال موجوداً، لذلك فإنه من غير الواضح ما إذا كان قادراً على تحقيق نصر كبير، مثل استعادة نصف حلب الذي تسيطر عليه المعارضة. ولطالما كان الأكراد في سورية حلفاء القوات الجوية الأمريكة المفضلون، إلا أن هناك حدود لما يمكنهم القيام به خارج الأراضي التي ليست ذات غالبية كردية.
أما في العراق، فإن موقف داعش أقوى وأعداؤها أضعف مما يبدون عليه. فانتصار كرد العراق في سنجار ما كان ليكون لولا استفادتهم من قصف الطائرات الأمريكية المكثف على المدينة الصغيرة، التي لم تحاول داعش الدفاع عنها بقوة كبيرة. والجيش العراقي لم يتعاف بعد من هزائم العام المنصرم، ولا يرغب الكثير من المجندين الانضمام إلى صفوفه مقارنة مع ما تجذبه الميليشيات الشيعية الكبرى الثلاث: منظمة بدر، وعصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله من مجندين للانخراط في صفوفها. وتحظى تلك الجماعات الشبه عسكرية بقبول الأكثرية الشيعية، إلا أنهم فشلوا في طرد داعش من الفلوجة، التي تبعد 40 ميلاً غرب بغداد. وبالعموم، فإن السلطة تتلاشى من رئيس الوزراء حيدر العبادي وحكومته المختلة وظيفياً.
ومع ذلك، فإن الدولة الإسلامية المزعومة، هي أضعف، إلى حد ما، مما كانت عليه. على الرغم من أن القوات الجوية تبالغ، عادة، بما يمكن أن تحققه بالقصف الجوي وحده، وهذا لا يعني أن هذا القصف ليس له أي تأثير. قد يكون الجنود المخضرمون قادرون على التكيف مع الأضرار المادية والتوتر النفسي لفترة طويلة، إلا أن مستوى دعم داعش الشعبي في المناطق التي يسيطرون عليها سوف يتراجع. وبلا شك فإنه ليس لدى حركة عنيفة منظمة تنظيماً جيداً أي خطط لإجراء انتخابات، وهذا الأمر قد يكون غير مهم. وهناك خسارة غير واقعية ولكنها مهمة لداعش هي أن الدول السنية كالمملكة العربية السعودية، وتركيا وممالك الخليج، والتي ربما لا تحب داعش، ولكن عندما ترى أن داعش الآن تشكل سلاحاً فعالاً بوجه الشيعة، سوف تكون الآن أكثر حذراً في التعامل معها. وتُعد تركيا الأكثر نشاطاً ضد خلايا داعش، وأكراد سورية، وقد أغلقت نصف حدودها مع سورية في وجه متطوعي داعش. وتُعد الإزالة المستمرة في تركيا للملاذات القديمة خسارة حيوية للجهاديين.
ولعل هناك شعور بأن داعش والجماعات التي تنتهج نهج القاعدة، والتي من المحتمل أنها كانت تحظى بتقدير الحكام السنة وشعوبهم، وأنها بمثابة طلائع النصر العسكري لمجتمعاتها، تثبت اليوم أنها كارثة على سنة العراق وسورية. فالغالبية العظمى من مجموع 3.2 مليون نازح عراقي هم من السنة، وهكذا أيضاً بالنسبة لغالبية 4 ملايين سوري نازح. وقد فر معظم النازحين من مناطق المعارضة التي دمرتها قوات الحكومة السورية الجوية ومدفعيتها. وخلال عامي 2006-2007 فقد طرد السكان السنة من بغداد إلى جيوب قليلة معظمها غرب المدينة. ولا يوجد الآن بشكل فعلي للسكان السنة في العراق مكان آمن داخل العراق يفرون إليه.
إن داعش تعيش تحت ضغط، وما هجماتها الإرهابية وموجتها خلال الأشهر القليلة الماضية، إلا أحد الأدلة عما نقول، ولكنها ليست بحال من الأحوال على وشك الانهيار. ولن يتحقق ذلك إلا عندما يصبح أعداؤها الكثر أكثر توحداً.
المركز الصحفي السوري –ترجمة: محمد المحمد
مصدر المقال الأصلي: الاندبندنت