لم يكن قرار وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف استبدال مساعده للشؤون العربية حسين أمير عبد اللّهيان بآخر، قيل إنه يدعو إلى التقارب مع العرب، بعيداً عن غيره من الإشارات الإيرانية الملتبسة في شكل متعمد، لا لجهة الصراع الداخلي بين المعتدلين والمتطرفين، ولا لجهة المرحلة الدقيقة التي بلغتها سياسة إيران وتدخلاتها خارج الحدود… من سورية والعراق واليمن ولبنان والبحرين وبقية دول الخليج، كما هو معروف، إلى غانا والجزائر (تحت غطاء السفارة العراقية فيها) كما كشف أخيراً. ففي الأخيرتين، وبعد انكشاف أمر الشيخ إبراهيم زكزاكي في نيجيريا، تبين وجود حركة إيرانية ناشطة، ليس سياسياً فقط إنما أيضاً على صعيد تشييع المسلمين السنّة في هذه البلدان، على الطريق إلى ربطهم ب “الولي الفقيه”، ولاحقاً كما تبين في كل مرة، تشكيل ميليشيات مسلحة منهم لا مهمة لها إلا أن تنفذ أوامره في بلدانها وحتى خارجها.
ذلك أن السلطة في إيران معروفة العنوان، بالنسبة إلى ظريف كما لغيره ممن تطلق عليهم صفة المعتدلين أو الإصلاحيين فيها. هي في يد “الولي الفقيه” السيد علي خامنئي، سواء كان عبد اللهيان هنا أو هناك، وسواء قرّر ظريف التقرب من العرب أو لم يقرّر. وما يفعله خامنئي، وما يسمى “الحرس الثوري” الإيراني في جانب، و “الحشد الشعبي” العراقي و “حزب الله” اللبناني في جانب آخر، في سورية والعراق واليمن والبحرين ولبنان تحديداً، وفي هذه الفترة تحديداً، لم يعد مما يجوز تجاهله أو السكوت عنه. ولا حاجة للقول إنه أخطر وأبعد أثراً بكثير مما يبدو على السطح.
في العراق، وبينما تخوض قواته المسلحة حرباً نوعية لتحرير الفلوجة ونينوى من “داعش”، لا ترى إيران فيه سوى ما تسميه “الحشد الشعبي” الشيعي (اعترف أحد قادة “الحرس الإيراني” بأنه هو الذي أنشأه) وما يقوم به، أو كلفته بأن يقوم به، على صعيد اعتقال وتعذيب وإعدام من تطاوله يد أفراده من سكان المدينة، بهدف واحد هو تعميق الشرخ بين السنّة والشيعة في بلاد الرافدين.
وليس خافياً بالنسبة إلى صانع القرار في إيران أن سياسته القائمة على إنشاء وتسليح الميليشيات في العراق (“قوات بدر” و”عصائب أهل الحق” و”لواء أبي الفضل العباس”، وبعدها “الحشد الشعبي”) ستؤدي إلى دفع الأطراف الأخرى للعمل على إنشاء ميليشيات مقابلة، بالتالي تحويل الشعب العراقي مجموعة ميليشيات تقف الواحدة منها في وجه الأخرى، وتمنع معاً بالتالي قيام جيش في البلد ما لم يكن خاضعاً بقوة الأمر الواقع لسلطة هذه الميليشيات وللمرجعيات الطائفية والمذهبية التي تقف وراءها.
ليس ذلك فقط، بل أن “الولي الفقيه” الإيراني أدخل العراق (على طريقة الوصي السوري في لبنان) في ما سمي “الترويكا”، من رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، التي وضعت الحكم في يد الوصي وحده، وغالباً خارج “الترويكا” نفسها. وبهذا، يقول العراقيون الآن، لم تعد أي من الرئاسات الثلاث تقوم بدورها، بل لم يعد ممكناً لها إلا أن تعود إلى “الولي الفقيه” لحل الخلافات في ما بينها… فضلاً عن أن هذه الخلافات يفتعلها هو، لينطبق عليه القول المأثور: “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”.
في الوقت الذي كان ظريف يصدر قراره باستبدال عبداللهيان بدعوى تحسين العلاقات مع العرب، كان أعضاء في البرلمان العراقي يشنون حملة على السفير السعودي في بغداد تامر السبهان ويطالبون بطرده من البلد، فيما كان رئيس الحكومة حيدر العبادي يقلل من أهمية ذلك ويحاول طمأنته، بينما يلتزم رئيس الجمهورية فؤاد معصوم نظرية مَنْ لا يسمع ولا يرى. والمعنى عملياً أن القرار في هذا الشأن يصدر من طهران وليس من أي موقع آخر في بغداد.
الأخطر من هذا، كما لم يعد سراً، هو سياسة “الفرسنة” المتدرجة والمبرمجة… إبعاداً للعراقيين من جهة عن هويتهم القومية العربية، وللدولة العراقية من جهة أخرى عن روابطها مع الدول العربية ومؤسسة الجامعة العربية. والأساليب هنا متنوعة، من الانتقادات ل”العربان” (الوصف المستخدم؟!) لتخليهم عن نجدة العراق في محنته، إلى تصوير الخلاف السني- الشيعي بأنه مجرد خلاف مع “التكفيريين” أمثال تنظيم “داعش” أو “جبهة النصرة”. وتحت هذا الغطاء لا يتم تسويغ التمدد الإيراني في العراق فقط، إنما أيضاً “فرسنة” المجتمع والهوية القومية والإسلامية.
في سورية، لم تكن استضافة طهران للاجتماع الذي عقد بدعوة منها، بين وزراء الدفاع في روسيا وسورية وإيران، وكذلك التواجد شبه الدائم في دمشق لقائد “فيلق القدس” اللواء قاسم سليماني، سوى دليل جديد على أن ما يريده “الولي الفقيه” لسورية هو الحسم العسكري فيها وليس أي شيء آخر. وإذا كانت عقبات كثيرة تقف في وجه ذلك، بينها “التردد” الروسي، نتيجة ما بات معروفاً عن التنسيق بين موسكو وواشنطن أولاً وبينها وبين تل أبيب ثانياً، وكذلك تهافت قوات الأسد واللاثقة بها بخاصة بعد تجربتها الأخيرة في حلب، ثم شعور إيران بإلحاح الحاجة إلى هذا الحسم خوفاً من تطورات دولية وإقليمية غير ملائمة، فليس مستغرباً أن تقوم النزعة العسكرية فيها بمغامرة غير محسوبة، وحدها أو بالتعاون مع ميليشيا الأسد، بهدف تغيير موازين القوى على الأرض.
ولعل إعلام إيران، بخاصة في بيروت، الذي يشيّع لمثل هذه المغامرة منذ مدة، وبات ينتقد علناً تردُّد روسيا في تقديم التغطية الجوية المطلوبة، ويصف معركة حلب المفترضة بأنها أم المعارك على طريق الحسم النهائي للحرب، أكثر الإشارات جلاء إلى هذا الأمر.
أما في اليمن، كما في البحرين ولبنان، فحدّث ولا حرج. لا نهاية للحرب في اليمن سوى بالاعتراف بميليشيا الحوثي وإشراكها مع سلاحها في السلطة. ولا استقرار في الثانية إلا بعد “ثورة تقلب الوضع فيها رأساً على عقب”، يقول سليماني. وطبعاً، لا دولة في لبنان إلا تلك التي أقامها “حزب الله” وستبقى ما بقيت الحال في العراق وسورية واليمن والبحرين على ما هي عليه.
… ويحدثونك، بعد ذلك كله، عن إقالة عبداللهيان!.
الحياة