كم هو الفرق كبير بين أمة تملك مشروعها النهضوي العام، وتعمل بجدّ وإخلاص لتنفيذه.. وبين أمة يقتل حكامها روحها، ويعبثون بثرواتها ومقدراتها، وشبابها، ويعملون كل شيء لأجل بقائهم : هدف الأهداف… بينما مافيا النهب والفساد تنغل في الجسد، وتأخذ معها كثير الفئات وتحوّلهم إلى مرتزقة، وبراغي تافهة في جسد مصنّع، متهالك .وتتهشّم الأوطان ينهشها فعلهم التأبيدي فتتعرّض لمزيد الصراعات وقابلية التفتيت على أكثر من أساس.. وتتسع الفجوات بما يسمح لجميع المشاريع الإقليمية والخارجية أن تصول وتجول، وأن تفعل فعلها وتملأ هذا الفراغ بما هبّ ودبّ من أفكار، ومشاريع، وبما يراكب ويراكم مشكلات جديدة تجعل الأوضاع أكثر تفاقما، واللجوء إلى الآخر الخارجي لمزيد من الانصياع والتبعية ..
ـ تركيا تنهض عملاقاً من واقع التخلف، والانقلابات العسكرية وآثارها التي رسفت بها تركيا عقوداً.
وحزب العدالة والتنمية، رغم مرجعيته الإسلامية يندمج في علمانية دولة أتاتورك، فيقولب وضعه، ويطوّر أدواته ومفاهيمه، وخطابه، وبرنامجه بما يستجيب لأسسها، ويدفع بها لتصبح من أهم الدول الصاعدة في مختلف المجالات، والتي تنافس أعرق البلدان الأوربية المتقدمة صناعيا، وتبعث فيها الخوف من منافسة شديدة تصبّ لصالح الاقتصاد التركي وخياراته..
ـ وتركيا الآن تضع برنامجاً طموحاً يحاكي الأساطير تحت عنوان” الهدف” حتى إذا ما جاءت الذكرى السنوية 1923 ـ 2023 لتحول تركيا من سلطنة إلى جمهورية بقيادة مصطفى أتاتورك.. العلماني، حققت تركيا قفزة أخرى مبرّمجة، وطموحة جدا، منها البدء بإنتاج طائرات حديثة للنقل، وجعل مدينة استانبول الأبهى والأجمل في العالم، وتحسين أداء الاقتصاد لتحقيق الفوز في المنافسة مع أكثر الدول تطوراً، وكثير من مشاريع على جدول الإنجاز ,,
*****
حركة النهوض العربي، بما فيها حركة الإحياء التي قادها رعيل مخلص، وواع منذ القرن السادس عشر، والتي تنامت، وتعمّقت في القرن السابع عشر والثامن عشر، وصولاً إلى القرن التاسع عشر وبوابة القرن العشرين.. كانت سابقة لحركة التغيير التركية، وتتجاوزها بمسافات، وإن كان بعضها جمعياً يستهدف إصلاح مختلف البلدان الإسلامية، وأولها السلطنة العثمانية.. ثم افتراقها لتصبح عربية الانتماء بشكل أوضح ..
لقد أنجزت تلك الحركة العديد من القضايا، بما فيها إصلاح الواقع الديني، والخطاب المفوّت السائد، وما لحق الدين من تراكمات التخلف والانحطاط، وتحديث الخطاب، والمفاهيم، والدعوة إلى التعليم، وثورة العقل، والتأثر بمنجزات الغرب العلمية والسياسية، بما فيها الحريات العامة، والتعددية، واحترام الإنسان وحقوقه، والفصل بين السلطات، والتمرّد على تأبيد الحكّام، وعلى إقحام الدين في السياسة ولصالح الحاكم.. وكثير مما فعله ذلك الرعيل.. ورموزه الكبيرة في المشرق والمغرب..
ـ لكن انقطاعاً باتراً حصل، وتحولات ارتدادية حلّت بفعل تشابك مجموعة عوامل ـ لا مكان لتناولها هنا ـ فتلاشت تلك الحركة التنويرية ـ النهضوية، ونهض من ركاماتها فكر ديني حزبوي وإن اتسم بنبرة إصلاحية متفاوتة العمق والوتيرة، ومتغيرة الاتجاهات، يقابله فكر قومي متأثر بالدعوات القومية الأوربية، وبردود الفعل العنيفة على التجزئة القسرية للبلدان العربية، واغتصاب فلسطين، وأجزاء أخرى من الوطن العربي ..وبدل التناغم، والتكامل، او التنسيق فيما بين تلك الاتجاهات، وحتى مع الاتجاهات اليسارية والاشتراكية.. كان الصراع الذاتي هو السمة الغالبة، والانضواء ـ بالنتيجة ـ في كنف حماية النظم الأحادية، أو منح الغطاء للأنظمة العسكرية ودخول رهانات خطيرة.. كانت الحقيبة الفلسفية السوفيتيية ذات تأثير ساحق على جوهرها ومنتجاتها في : الأحادية، والحزب الواحد القائد، ثم في توليد الفرد المؤبّد، المعصوم، شبه الإله.. ووفاة ذلك المشروع النهضوي التوحيدي على يد حملته بداية، ومن قبل خونته، والمرتدّين عليه ثانياً، وبالتواطؤ والتعاون مع ثقل الدور الخارجي.. ثالثاً ..
ـ عملياً منذ هزيمة حزيران، بل وقبلها، منذ سقوط أول تجربة وحدوية بين مصر وسورية بسبب مرتكزاتها التي قامت عليها، ومنتجاتها المتداخلة مع التآمر العربي والخارجي عليها، خلا الوطن العربي من أي مشروع نهضوي جمعي.. رغم بعض المحاولات التي كان العراق يسعى إليها بقيادة الرئيس صدام حسين، وضمن مواصفاته، وأحاديته، واغتياله للحريات العامة والفردية، وتعليب المجتمع والحزب وفق رؤيته، وعلى يد الأجهزة الأمنية والرئاسية مطلقة الصلاحيات,
ـ القوميون فشلوا.. وباتوا ـ عبر تلك التجارب، ومن خلال ما قام به الطاغية الأكبر : حافظ الأسد في تلطيخ منظم، وقهري، وسلس للبعث، وتصديره كعنوان للقذارات والموبقات.. بوضع محاصر تماماً يستدعي منهم، بكافة اتجاهاتهم القيام بمراجعات شاملة لأسس فكرهم، وأمهات مقولاتهم وفلسفتهم، وباتجاه تغيير وتطوير مفاهيمهم وخطابهم.. الأمر الذي يشكل تحدّيات كبيرة لا ندري مدى القدرة على مجابهتها، ومدى توفّر العوامل المناسبة لذلك . وحتى اليساريين والديمقراطيين بمختلف مشاربهم مصابون بأمراض شتى تضعهم على هوامش ورفوف الواقع والمجتمع.. ومطالبين، كالقوميين بإجراء تقويم حقيقي لأطروحاتهم، خاصة مفاهيمهم حول العلمانية، وموقع الدين في مجتمعاتنا، والإيمان ومفاعيله، وكثير من القضايا الفكرية، والسياسية، والعملياتية ..
****
ـ الحركات الإسلامية التي توفّرت لها، وما تزال مجموعة من المخصّبات المناسبة في تربة الشعوب العربية، والوفرة المالية المقبولة.. لم تنجح حتى اليوم بتأهيل نفسها لتكون قوى قائدة لمشروع نهضوي، حداثي يخرج من مألوف التقليدي، ومن أسار المحددات الضابطة إلى فضاءات أرحب .
ورغم بعض المحاولات التطويرية في الخطاب والمضامين لدى بعض أحزاب جماعة الإخوان المسلمين ـ الإقليمية ـ وخارج سياقات التنظيم العالمي، كما في حركة النهضة التونسية، والسودانية ـ الترابية ـ بعد الطلاق مع نظام البشير، ونسبياً حركة الإخوان المسلمين في سورية و”ميثاق العهد” الذي أصدرته عام 2012 ، ووجود محاولات ” إسلامية” أخرى تعمل على تطوير الخطاب التقليدي، وإدخال مفاهيم التعددية، والديمقراطية، والدولة المدنية إليه، وعديد الأفكار الجديدة التي تخصّ إعادة النظر في المنتشر من المفاهيم الفقهية، والتفسيرية، والاجتهاد وموقعه، وبما يمكن اعتباره ملامسة للتجديد وتكييف الأفكار وفق الروح المفتوحة للإسلام، وبما يتلاءم والعصر، ومتطلباته…
ـ إلا أن الساحة تخلو ـ حتى يومنا هذا من بلورات متكاملة لمشروع نهضوي.. ناهيك عن ضرورات ذلك وبنائه من قبل مجاميع الأطياف السياسية التي يمكن أن تتشارك في المرتكزات العامة لبناء دولة الحق والعدالة والتعددية ..
ـ وحين يصبح الوضع الإيراني ضاغطاً على العقول، والاحتمالات المفتوحة.. علينا أن نعي أن لإيران مشروعها الذي تعمل على دفعه وتسييده في وطننا، وعلى حساب قضايا شعوبنا، وأمتنا ..
موقع اتحاد الديمقراطيين السوريين – عقاب يحيى 14 آذار 2015