هذا الواقع هو من أيقظنا من غفلة مغّلفة، كالسرطان تماماً، عندما يتفاقم في الجسد ينهشه من غير إذن، حاله كحال جسد ممزق على أطراف أرض خاوية.
الأستاذ أحمد تفنكجي (حلب، 40 عاماً) يروي لنا إحدى قصص طلابه..
سألته: لماذا توقفنا عن العطاء لأرضٍ احتوتنا، عبرنا بحوراً من الموت، وودياناً من الخوف لنرحل عنها؟
أجابني: كل ما حدث، كنا نعتقده الأفظع على الإطلاق، بالرغم من الموت، وانتشار الأشلاء على زوايا الحياة، إلا أنني أرى وهجاً لأملٍ يولد من رحم الخيبات والمعاناة، أملاً يمتص كل بشاعة الحرب ليولد بصخب جديد..
قصتي مع الأمل ولدت منذ أشهر قليلة، عندما كنت أمارس مهنتي كمدرس لجيل فقد أبجديته كما فقد وطنه.
هناك في المقعد الرابع كان حمزة ذو الأعوام العشر، لا يجيد القراءة والكتابة..
لفت انتباهي ذكائه ومشاركته، كلماته المنمقة بالحديث، جلست لبضع دقائق معه، فبدأ يتحدث لي كم عانى هو وأهله قبل أن يصلوا إلى هنا، وكيف تجرع الصبر من كؤوس الحصار، وكيف خرج من الركامٍ إلى الحياة.
قال لي بصوتٍ عالٍ وكله صلابة: نحن الجيل الذي مات غرقاً، نحن الجيل الذي مات جوعاً.
سألت نفسي: هل يُعقل لطفلٍ بهذا العمر أن يكون كاتبٍ، وأي كاتب؟ كاتب دون أن يكتب…
نظر إلي ومسح لي دموعاً ذُرفت من أسى كلماته، وقال: الحرب يا معلمي من جعلني أخترع حروفاً حُرمت منها، جئت بها إلى عالمي الخاص لأعانقها بألمي، هي الوحيدة التي أخرجتني من غبار لم ينفضه عني أحد..
عندما خرجت من تحت الأنقاض في مدينة حلب، كانت كلماتي عالقةً بين قتيل وجريح ورضيع فقد حضنه.
كنت أحلم أن أصبح معلماً مثلك، لكني عندما رأيت أمي تموت أمامي تحت الأنقاض لم يعد لي خاطرٌ بشيء، فقدت النطق بعدها عاماً كاملاً..
لم يكن والدي يراهن على حياتنا فموت أمي أفقدنا أي شعور، فما أصعبه من خيار “الهروب” من الموت إلى المنفى.
ذاهبون إلى تركيا، بلد ربما يحتضننا وربما العكس..
عبرنا فجراً، تعرضنا للسرقة،، ومشينا كثيراً حتى أصبحنا داخل الأراضي التركية.
بعد علاج لمدة أشهر تحسنت صحتي، وقام أبي بتسجيلنا في المدارس بناءً على قرارنا الأخير، ألا وهو التعلم..
والآن تراني مفعم بالأمل والحب والامتنان لكل شيءٍ أوصلني إلى هنا.
يكمل الأستاذ كلامه: الحرب لم تقلل من الأمل لدى حمزة، على العكس تماماً جعلت منه إنساناً آخر، وربما شاعراً للمستقبل القريب، وربما كاتب بقلمٍ صادق..
قال كلماته الأخيرة بقلبٍ حالم:
“مهما اشتدت بنا جهامة الرياح سنظل نترقب أفق بعيد، مطلي بألوان الطيف السبعة”
قصة خبرية/ محمود المعراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع