امتازت الثورة السورية بظاهرة الأطاحة بالمفاهيم كالواقعية والموضوعية سواء من حيث الطرح او من حيث الجدال ,و سوف لن تتوقف عند حد كهذا, بل ستستمر بكل ارهاصاتها وانعكاساتها السلبية الى فترات زمنية غير منظورة الأفق ,فالمجتمع الدولي الذي ادخل الثورة السورية في هذا النفق المظلم كنتيجة طبيعية لاختلال المفاهيم وتضارب الإرادات ,و مازال البحث جار عن المعارضة المعتدلة (وأعتقد رفعا للعتب وليست الجدية تقتضي ذلك) وسط حمم البركانية للمجتمع السوري المتشظي بكل مكوناته وتوجهاته العقائدية والفكرية ,الأمر الذي يتنافى مع ابسط مفاهيم الموضوعية والمصداقية أليست في البداية كانت المعارضة في أقصى حدود الاعتدال؟ ربما سؤال كهذا تعليله لديهم ,لا بل لم يقف سوء التعامل الدولي والاقليمي مع المعارضة السورية, فالتعامل أمتاز بالنفاق والازدواجية والتذبذب والتردد غير المبرر والمبالغة في التخطيط لتوليد حالة من الترهيب والترغيب والإكراه على الرضى بأمر الواقع أذا حاجتهم لهذا الأمر , وفي ذات الوقت كانت أصابعهم الكيدية تتوغل في البنية الثقافية والعقائدية للمجتمع السوري , وبالفعل تمكنت لأسباب ذاتية(متعلقة بالنخب نفسها) في سحب البساط من تحت النخب في المجتمع السوري وإغراقها بركام من حواجز الشك والحرج التي صادرت قواها الخائرة أساسا ,فالنخبة المفتقرة للأدوات ولم تجد للاستسلام والصمت المطبق بديلا ( أحراجا تارة وعجزا للموائمة بين السياسة والشريعة طورا ) ولا سيما النخب المنظرة للفكر الاسلام السياسي بينما بقية النخب انساقت خلفهم بشتى المسالك وكان الحصاد مقتصرا على الخيبة او ليست بمستوى الطموح في أحسن الأحوال ,وبلا أدنى ريبة استحداث مثل هذه العوامل الخانقة للنخب في بنية الثقافية والفكرية للمجتمعات تعتبر من أقوى انواع الاسلحة الفتاكة تبعا لنظريات العلم الاجتماع كونها تفضي الى انقسامات عمودية للمجتمعات الامر الذي يؤجج الصراعات العقيمة وتغذي سبل ديمومتها , وبأعتقادي كانت استراتيجية مرسومة مسبقة بغية القضاء على الشخصية العقائدية للأنسان في منطقة المشرق الاسلامي عامة والسوري خاصة ,ولعل زرع اكثر قدر ممكن من أسباب التفرقة والتشظي بين فسيفساء المكونات السورية وبمختلف الصور والأشكال خير دليل على ما نسوقه في هذا السياق , وهذه الظاهرة ما برحت باتت تتمدد وتستفحل في البنية الاجتماعية
فالمجتمع الدولي هو تلك القوى نفسها التي انتهجت المماطلة مذهبا للتعامل مع المعارضة وجعلوا من الوعود غير المزمنة املا للمعارضة في عرائها وهم يواجهون شتى المواجهات غير المتوقعة – النزوح واللجوء وما تركتها من ضغوطات على عاتق المعارضة اتت في المقدمة – والعسكرة المتسرعة تحت وطئة التحريض والتشجيع ,وعلى أرضية هشة من الوعود الزائفة و المعارضة التي سقطت بغتة في هذه الاوضاع لم تتكهن العواقب بصورة موضوعية وجاهدت نفسها بشتى الطرق لمواجهة ماهو حتمي وما هو أفتراضي في سطور مسيرها التي أقربا الى القسرية منها الى الثورية او الطوعية ,وليس بخاف على أحد هذا الامر ولدت لدى السواد الأعظم الحقد والكراهية تجاه المجتمع الدولي والقوى الراعية للنظام العالمي الجديد وربما بنفس القدر للقوى الإقليمية التي أسمرئت الاصطياد في المياه العكرة , وبالتالي كانت البذرة الأولى لنشوء التطرف والتشدد والراديكالية والأنكى سرعان ما أنهالت تلك القوى العالمية بالدعم وبكافة صوره اللوجستية والمادية لهذه البذرة , وأعتقد (بالطبع لا أسوق أعتقادي حجة )الأمر الذي أفسحت الشهية للقوى الداعمة لهذه البذرة هو شعورهم العميق بأن هذه الجماعات أقرب الى العصاباتية ولا تمتلك مشروعا ثوريا متكاملا تمكنهم من كسب التعاطف الرأي العام العالمي وبذلك هم خير ثوار تحت الطلب وخير مرتزقة لتحقيق مصالحهم ,وباتت اللعبة أشبه بالدوران في حلقة مفرغة ,وينبغي الأ ننسى او نتناسى بأن المجتمع الدولي وأعماله غير المسؤولة وبتجاهله للقوى الثورية العريقة في المجتمع السوري كانت بمثابة تدشين ومباركة لحقبة (داعش) التي بدورها انتهجت الدموية والوحشية المفرطة ضاربا بعرض الحائط التفاهمات المبدئية على مبدأ _ ليس للسيء سوى الأسوء – حيال المجتمع وغاصت في تأويلات شديدة التطرف والراديكالية للنصوص الدينية لتوظيفها في عمليتي القيادة والحشد لحرب دينية بكل معنى الكلمة ,و أنصار هذا الفكر القائم على النصوص الدينية المتطرفة أرادوا بمحض أرادتهم أن تكون حروبهم دينية بأمتياز , ربما لغاية توحيد المجتمع بدلا من التشظيات الطائفية والمذهبية التي بدورها تصادر شيءولو يسير من عنفوان رحى الحرب الدائرة في المنطقة ,واستراتيجية التوحش والرعب والتفنن في عمليات القتل والتصفية لمعارضيه كانت لا بد منها رضوخا لأرستقراطية السيكولوجيا, ولعدة أسباب متعلقة بذاتهم المتخم بالجمود والانعزالية ,ولعل في مقدمتها الشعورالوسواسي القهري بعدم ديمومة منابع التمويل في ظل انعدام الأفق لأقامة علاقات مع أية قوى عالمية وبالعلنية المعهودة في العلاقات التي ترسخ قوة الجماعات , وبالتالي لم تعد أمامهم سوى الاستفراد بالمجتمع وبشتى الوسائل والصور الصادمة لمدارك البشرية وكأن هذه البشرية خلقت لتتحمل شتى أعباءهم من التقشف والتزمت والانتحارية , وبالتوازي مع الحال تنامت نزعة المرضية بقدر التفنن في الوحشية,وتلك النزعة القريبة الى المرضية هو أحتلال العالم بأسره وبكامل مقدراته المادية والبشرية ,وتطبيق الشرائع السماوية بلا منازع على عالمهم الافتراضي المزمع أنشائه في غضون أيام وسنوات ,وهو ذاته الخيار اليتيم الذي تؤمن لهم سبل البقاء والديمومة ولعله حالة في غاية الطوباوية والنرجسية لن تتحقق بهذه الطريقة المتجشئة بالفوضوية والعبثية ,وبالتالي وضعت القوى الاسلام السياسي العريقة في المنطقة والتي تمتاز بكافة السمات الأخلاقية والشرعية كعضو من جسم المجتمع الدولي أمام محك صعب للغاية بل تكاد ان تخنقها وتقضي عليها ,ومرد هذا الأمر الحذر الشديد للقوى الاسلام السياسي في التعامل مع الوضع المستحدث وألتزمت الصمت حيالها وأرتأت دور المشاهد السلبي وبالتالي هذه القوى باتت تفقد دورها الريادي والقيادي بالتدريج في المجتمع ,والأنكى هو ظاهرة نسب الأتهامات لهذه القوى حسب أهواء وميول الجهة الملقمة بالتهمة ,ونخشى ما نخشاه أن تنطبق عليهم مع طول أمد الصمت المترافقة مع الأزمة التي تزداد تعقيدا يوم بعد أخر مقولة – المسكين مات حرجا
د. إبراهيم رمضان الشدادي – مركز الشرق العربي