– في قمة الجدل حول مسألة الهجرة والصور القاتمة التي رسمت بشأنها والتخويف منها، يعلو صوت صندوق النقد الدولي مشيدا بالنصف الملآن للكأس ومدافعا عن الفوائد الاقتصادية للهجرة رغم “تحديات” تدفق المهاجرين ودور ذلك في تطور النزعات المعادية للآخر في أوروبا والولايات المتحدة، بالأساس.
لم ينف تقرير للصندوق أن “الهجرة يمكن أن تتسبب بتوتر اجتماعي وردود فعل سياسية معادية في البلدان المضيفة”، لكن “التجارب السابقة تشير إلى أنها قد تقدم أيضا فوائد من حيث تحقيق نسبة نمو وإنتاج كبير ومعالجة مسألة الشيخوخة”.
ويركّز الخبراء كثيرا على مسألة شيخوخة المجتمعات الأوروبية بالأساس، حيث تغفل بعض الأصوات المعارضة للهجرة عن حقيقة أن الشيخوخة بإمكانها أن تدمر المجتمعات الأوروبية اقتصاديا، وحتى عسكريا؛ فوفق المعايير الدولية أي مجتمع تجاوزت فيه نسبة الأعمار الستين عاما أو يزيد أكثر من 10 بالمئة من تعداد السكان، هو مجتمع يعاني من الشيخوخة، أي نقص في اليد العالمة والمنتجة والفاعلة مقابل ارتفاع في نسبة الاستهلاك.
وتشير الإحصائيات إلى أن دولا مثل ألمانيا والولايات المتحدة واليابان والصين تعاني بشكل غير مسبوق من ارتفاع معدلات الشيخوخة، فعدد الذين يبلغون 60 سنة أو أكثر في الصين وكوريا الجنوبية تتراوح نسبتهم بين 12- 15 بالمئة، أما في الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة فتقدر نسبة الشيخوخة بين 15-22 بالمئة.
وفي المقابل يشير تقرير صندوق النقد الدولي إلى أن زيادة نقطة مئوية واحدة لنسبة المهاجرين في صفوف السكان البالغين في البلد المضيف قد تعزز الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة “2 بالمئة على المدى الطويل” في مجتمعات يتحول جزء كبير منها من منتجين إلى مستهلكين، بما يؤثر بشكل كبير على قدرات المجتمع الادخارية والاستثمارية، وذلك يؤثر بدوره على النمو في اقتصاديات الدول ومن ثمة اقتصاد العالم.
استنزاف الموارد
يشير كين مارتن، الخبير البريطاني في علم السكان ومستشار البنك الدولي لشؤون التنمية، إلى “أن تنامي أزمة الشيخوخة في العديد من البلدان، منها بريطانيا، أصبح عنصرا ضاغطا يستنزف موارد الميزانيات العامة، فعلى سبيل المثال صناديق المعاشات ورؤوس أموالها حاليا تقدر بالمليارات وعلى الرغم من ذلك لا تكفي وتعاني دائما عجزا ماليا”.
ويذهب الباحث والصحافي الإيطالي جوليو ميوتي إلى التحذير من ارتفاع أعددا الوفيات مقابل انخفاض أعداد المواليد في أوروبا، مشيرا إلى أنه خلال عام 2015، ولد 5.1 مليون طفل في الاتحاد الأوروبي، في حين توفي 5.2 مليون شخص، وهذا يعني أن الإتحاد الأوروبي لأول مرة في التاريخ الحديث يسجل انخفاضا طبيعيا في عدد سكانه، وفق أرقام المكتب الإحصائي للاتحاد الأوروبي.
وتشهد أوروبا الشرقية الآن “أكبر خسارة سكانية في التاريخ الحديث”، في حين تفوقت ألمانيا على اليابان وأصبحت البلد صاحب أقل معدل مواليد في العالم، على أساس متوسط الأعوام الخمسة الماضية. وفي ألمانيا، وإيطاليا، كان الانخفاض هائلا بصفة خاصة، -2.3 بالمئة و -27 بالمئة على التوالي.
وأمام واقع أوروبا التي يصفها الكاتب الإيطالي بأنها أصبحت رمادية الشعر، تصبح الهجرة حلا للبعض من مشاكلها الديموغرافية، وفرصة اقتصادية، قبل أن تكون تحديا أمنيا وثقافيا؛ خاصة وأن تحديات الشيخوخة لن تكون اقتصادية فقط بل أيضا سيكون لها تأثير على القدرة العسكرية للدول، وفق مجلس الاستخبارات القومي الأميركي.
ويرى جان كريستوف دومون الخبير في شؤون المهاجرين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن أوروبا إذا أغلقت الباب في وجه المهاجرين ستدفع ثمنا اقتصاديا، وقال “في الوقت الراهن يمكننا الاستفادة أكثر من المهاجرين الموجودين بالفعل وخلق توازن أفضل بين مهاراتهم واحتياجات السوق”، لكنه يحذر من أنه “على المدى الطويل لن يقتصر الأمر على التوفيق بين المهارات بل سيتعلق بالأعداد”.
أزمة عسكرية أيضا
تقول منظمة الصحة العالمية إن سكان العالم بشكل عام يهرمون بسرعة، حيث تشهد نسبة سكان العالم الذين تتجاوز أعمارهم 60 عاماً، في الفترة بين عامي 2000 و2050، زيادة بنسبة الضعف، أي من 11 بالمئة إلى 22 بالمئة. ومن المتوقع، على مدى الفترة ذاتها، أن يرتفع العدد المطلق للأشخاص البالغين من العمر 60 عاماً فما فوق من 605 ملايين نسمة إلى ملياري نسمة.
وفي الوقت ذاته ستشهد البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل أسرع وأكبر تحوّل ديموغرافي، فقد استغرق ارتفاع عدد سكان فرنسا البالغين من العمر 65 عاما فما فوق بنسبة الضعف. وعلى عكس ذلك سيستغرق بلوغ تلك النسبة، في بلدان مثل البرازيل والصين، مدة تقل عن 25 عاما.
وتؤكد على ذلك الأمم المتحدة بقولها إن العالم بشكل عام يتقدم في السن، حيث تتوقع أنه في الـ50 سنة القادمة سيزداد عدد كبار السن نحو أربعة أضعاف.
ويلقي نقص العناصر الشابة بظلاله على العمل العسكري، كما أن الحكومات قد تضطر إلى تخفيض ميزانيات الدفاع والمساعدات الخارجية لمصلحة تحسين بالمعاشات والرعاية الصحية لكبار السن. ويبين تقرير مجلس الاستخبارات القومي الأميركي، أن صناع القرار الأميركي قلقون من ظاهرة تنامي أعداد كبار السن، وقدرة الإنسان على العيش لسنوات أطول سواء في الولايات المتحدة أو البلدان الحليفة.
ويشير الجنرال المتقاعد إليكس كاشمور إلى أن “الشيخوخة” حتى الآن ظاهرة محلية في عدد من الدول المتقدمة، لكن تداعياتها الاقتصادية والعسكرية ستؤدي إلى تغيير ضخم في موازين القوة الدولية بما يجعلها مشكلة كونية. ويشير كاشمور في قراءته لتقرير “الاتجاهات الكونية حتى عام 2030: عوالم بديلة” إلى أن ”تزايد ظاهرة الشيخوخة في أوروبا ولدى حلفاء واشنطن في شرق آسيا (اليابان وكوريا الجنوبية)، يعني أن حلفاء الولايات المتحدة سيفقدون القدرة على تمويل قدراتهم العسكرية لتأمين الالتزامات الأمنية الدولية، ولن تكون لدى المؤسسات والجيوش الغربية الطاقة للحفاظ على وجودها العسكري الراهن على الأمد الطويل”.
الأزمة الأوروبية والنزوع نحو اعتماد الهجرة حلا مؤقتا أو سريعا للأزمة، أبعاد متداخلة تواجه اليوم بأزمات سياسية، تحول دون الاطمئنان الأوروبي للقادمين من الضفاف الأخرى، وتعمق أزمة سكانية تطل بوجهها على القارة. وقد تدخل الإرهاب وقضايا الأمن والنزعات اليمينية المستشرية، دواع جديدة على خطوط التفكير الأوروبي وتضيق المنافذ الأوروبية على المهاجرين.
وستبقى الأزمة متواصلة خاصة وأن الاعتماد على المهاجرين من أوروبا الشرقية، لم يعد متيسرا، فدول هذا الجانب الأوروبي بدورها باتت تعاني من الشيخوخة، هذا بالإضافة إلى عقبات أخرى، لذلك فإن أوروبا مدعوة إلى استنباط حلول لتهرمها السكاني بوصفه سببا قائما، وللهجرة بوصفها حلا مفيدا.
العرب