يواجه الطريق نحو المصالحة بين أنقرة ودمشق العديد من العقبات المرتبطة بتاريخ من انعدام الثقة والثغرات الكبيرة في القضايا الخلافية الرئيسية
في الأسابيع الأخيرة، أشارت تصريحات الحكومة التركية ــ التي صدرت العديد منها مباشرة عن الرئيس أردوغان ــ إلى الرغبة في المصالحة مع الرئيس السوري بشار الأسد. ويمثل هذا تحولًا كبيرًا منذ اندلاع الحرب السورية قبل أكثر من عقد من الزمان، عندما انهارت العلاقات التركية السورية تمامًا. و فرَّ ملايين اللاجئين السوريين إلى تركيا، وفرضت جماعات المعارضة الموالية لتركيا سيطرتها على أراض في شمال سوريا. وعلى الرغم من التوترات الطويلة الأمد بين الجانبين، فإن تركيا ترسم الآن مسارًا جديدًا، إلى الحد الذي تتحدث فيه المصادر التركية عن اجتماع وشيك بين الأسد ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك تسريبات تشير إلى أن اجتماعات على المستوى الأمني بدأت بالفعل بين الجانبين. ومع ذلك، يواجه التقارب الهادف عقبات كبيرة، ونظرًا للحالة الفوضوية التي تعيشها المنطقة، فإن تأمين مثل هذه الصفقة سيكون معركة شاقة.
من جهتها، لا يبدو أن القيادة السورية في عجلة من أمرها لإصدار بيانات تتعلق بالمحادثات المحتملة. فقد ظلت تصريحات الأسد عامة، حيث قال : “إن اللقاء وسيلة، ونحن بحاجة إلى قواعد ومرجعيات للعمل. وهناك لقاء تم ترتيبه مع المستوى الأمني من خلال بعض الوسطاء، وكنا إيجابيين”. وجاء ذلك في أعقاب تصريحات وزارة الخارجية السورية، التي تضمنت أن أي مبادرة للتقارب مع أنقرة يجب أن تستند إلى أسس واضحة تضمن إعادة العلاقات بين البلدين إلى حالتها الطبيعية، وطالبت بانسحاب القوات التركية “المتواجدة بشكل غير قانوني في الأراضي السورية”، ومحاربة الجماعات الإرهابية التي لا تهدد أمن سوريا فحسب، بل وأمن تركيا أيضًا. وبهذا المعنى، يبدو أن هذا المسعى الأخير هو خطوة مدروسة مدفوعة في المقام الأول من قبل النخب السياسية التركية المصممة لمعالجة عدد من المخاوف الداخلية والخارجية.
وحتى لو تم عقد اجتماع بين الجانبين، فمن المؤكد أن عددًا من القضايا الشائكة والمعقدة ستكون على رأس جدول الأعمال، بما في ذلك إعادة اللاجئين السوريين إلى سوريا والتعاون في مكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، لاتزال الخلافات الجادة حول الدور الذي ينبغي للأطراف الثالثة أن تلعبه في الشرق الأوسط قائمة. ترغب تركيا في فرض نفسها كقوة إقليمية في حد ذاتها، وتقود المبادرات الثنائية مع جيرانها. وعلى النقيض من ذلك، يتمتع نظام الأسد بعلاقات واسعة النطاق مع إيران وروسيا، ومن المرجح أن يؤدي اعتماد دمشق على حلفائها إلى تعقيد الجهود التركية. وعلى الرغم من أن تركيا وسوريا تأملان في حل مجموعة كاملة من القضايا، إلا أن هناك ثلاثة صراعات رئيسية متبقية بين الجانبين.
اللاجئون السوريون في تركيا: تشير التقديرات التركية والأمم المتحدة إلى أن عدد اللاجئين السوريين في تركيا يتراوح بين ثلاثة إلى أربعة ملايين لاجئ، ويختلف الوضع القانوني لهم من منطقة إلى أخرى. ويعيش معظمهم في إسطنبول أو ضواحيها. وفي البداية رحب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية بالسوريين بأذرع مفتوحة، ولكن مع تباطؤ الاقتصاد التركي بشكل كبير ومطول، أصبح الرأي العام التركي معاديًا بشكل متزايد لوجود السوريين في البلاد. والواقع أن هذه القضية كثيرًا ما تُستشهد بها باعتبارها أحد الأسباب وراء الخسائر الكبيرة التي مني بها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية الأخيرة. ونظرًا لوعيه بهذه التحولات في السياسة الداخلية، فمن المرجح أن يسعى أردوغان الآن إلى إيجاد حل من شأنه أن يعالج هذه المسؤولية السياسية.
وعلى الرغم من الرغبة الملحة من الجانب التركي في التوصل إلى تسوية بشأن العودة إلى الوطن، فإن عددًا من العقبات تعوق التوصل إلى حل قابل للتطبيق لأزمة اللاجئين. فمن ناحية، لم تبد القيادة السورية أي إشارة إلى أنها ترى عودة هؤلاء اللاجئين على أنها أي شيء آخر غير قضية تركية داخلية. فضلًا عن ذلك، يرفض العديد من اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا العودة إلى شمال سوريا، حتى في المناطق الخاضعة للسلطة التركية أو الدولية. ولا تعد هذه المناطق الموطن الأصلي للعديد من اللاجئين فحسب، بل يخشى السوريون في المنفى الانتقام والعقاب الجماعي على أيدي قوات أمن الدولة إذا عادوا إلى ديارهم ــ على الرغم من تعهدات النظام بعكس ذلك. وعلاوة على ذلك، هُدمت أو استولى على العديد من منازل هؤلاء اللاجئين أطراف مختلفة، بما في ذلك الميليشيات الإيرانية، كما ورد في دوائر المعارضة السورية.
وجهات نظر متضاربة بشأن الإرهاب: لعقود من الزمن، شنت الحكومة التركية حملة ضد التمرد ضد حزب العمال الكردستاني على الأراضي التركية. واليوم، قمعت أنقرة الجماعة إلى حد كبير داخليًا لكنها لاتزال تركز على استئصال عناصر حزب العمال الكردستاني في سوريا المجاورة. تتهم تركيا قوات سوريا الديمقراطية (SDF) – التي تسيطر على جزء كبير من شمال شرق سوريا – باستضافة ودعم مقاتلي حزب العمال الكردستاني. هذه قضية محورية بالنسبة لأنقرة بسبب المخاوف القديمة من مطالب الاستقلال الكردية داخل تركيا. وبالتالي، فإن منع إنشاء كيان كردي في تركيا أو الدول المجاورة هو موضوع بارز ومتسق في السياسة الخارجية التركية. تظل هذه القضية نقطة استقطاب واستفزاز للقومية التركية وقضية بارزة في كل انتخابات.
ولترجمة هذه الاستراتيجية، نفذت تركيا عدة عمليات عسكرية كبرى على طول حدودها مع سوريا. ورغم تنوع أهداف هذه العمليات ــ من دعم فصائل المعارضة السورية الموالية لأنقرة، أو ضرب البنية التحتية في أراضي قوات سوريا الديمقراطية، أو استهداف مقاتلي حزب العمال الكردستاني، فإن القاسم المشترك بينها كان إضعاف القدرات العسكرية والإدارية للعناصر الكردية المستقلة في سوريا. ومن أبرز هذه العمليات: عملية درع الفرات في عام 2016، وعملية غصن الزيتون في عام 2018، وعملية نبع السلام في عام 2019، بالإضافة إلى عمليات أخرى أصغر نطاقًا.
لا شك أن مواقف دمشق وأنقرة تتقاطع في جوانب أساسية فيما يتصل بالقضية الكردية، بما في ذلك منع تشكيل أي كيان كردي مستقل. ولكن هناك تناقض واضح في كيفية المضي قدمًا. إذ تقتصر أنقرة في تعريفها للإرهاب على الجماعات الكردية، ولا تعتبر العديد من قوى المعارضة السورية إرهابية. وفي المقابل، تتبنى دمشق تعريفًا أوسع للإرهاب يشمل كل أطياف المعارضة للنظام السوري.
لكن في ظل الوجود العسكري التركي في شمال غرب سوريا، والذي تصفه دمشق بالاحتلال، فإن جهود المصالحة بين الطرفين تبدو بعيدة المنال. ويتعمق هذا الانقسام بسبب عجز النظام عن اتخاذ تدابير عسكرية فعّالة ضد حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية، حتى لو رغب في ذلك. ويرجع هذا إلى تحالف قوات سوريا الديمقراطية مع الولايات المتحدة، وهو ما يحميها إلى حد كبير من الهجوم المباشر في الوقت الحالي.
التحولات الإقليمية والدولية : يتزامن اقتراح المصالحة بين أنقرة ودمشق مع تحولات ديناميكيات جيوسياسية في المنطقة وحول العالم. فالحرب في غزة، والتنافس بين الولايات المتحدة وإيران، والحرب في أوكرانيا، وصعود العناصر اليمينية المتطرفة الانعزالية في الغرب، كل هذا له عواقب بعيدة المدى على كل من تركيا وسوريا.
لا شك أن القوى الإقليمية والدولية تحاول أن تتدخل في جهود الوساطة، بعضها مؤيد وبعضها معارض. ويبدو أن روسيا هي المستفيد الأكبر من مثل هذه الصفقة؛ كما يستفيد حليفها الأسد من أي جهود تطبيع على الساحة الدولية، كما يشكل النفوذ التركي ثقلًا موازنًا مفيدًا للقوة الإيرانية.
وبالإضافة إلى كونها أحد الداعمين الرئيسيين للأسد، فإن روسيا تربطها علاقات قوية، وإن كانت معقدة إلى حد ما، بتركيا، ويبدو أنها تدفع الجانبين نحو المصالحة، كما اقترح اجتماع في موسكو في أواخر عام 2022 بين وزيري الدفاع التركي والسوري. كما توسطت روسيا في اجتماعات بين مسؤولين أمنيين وعسكريين سوريين وأتراك العام الماضي، رغم أن هذه الاجتماعات لم تسفر عن اتفاقات.
وبينما كان هناك همسات عن محاولات غربية لتخريب جهود المصالحة بين أنقرة ودمشق، اتهمت أوساط أخرى إيران بتقويض هذه الجهود، رغم دعمها الإعلامي لهذه المصالحة. وهو ما قد يفسر ظهور ملف الديون الإيرانية على دمشق، والمقدرة بنحو 50 مليار دولار، تزامنًا مع أي تقارب بين دمشق وجيرانها.
إن استعجال الرئيس أردوغان في تحقيق المصالحة مع الأسد، بالإضافة إلى الاستجابة السريعة لمبادرة روسية، قد يكون مرتبطًا أيضًا بإمكانية فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، مع توقع أن يؤدي فوز ترامب إلى تراجع المساعدات الأميركية لأوكرانيا، والرضوخ لمطالبات بوتن بالأراضي الأوكرانية التي ضمها، وإضعاف محتمل لحلف شمال الأطلسي في مقابل تنازلات بوتن بشأن قضايا الشرق الأوسط، مثل صد الهيمنة الإيرانية في سوريا ودفع الأسد نحو خطوات نحو السلام مع إسرائيل.
كما أن جهود التطبيع الأخيرة بين الدول العربية وسوريا، التي أقرتها القمة العربية التي عقدت في السعودية في مايو/أيار 2023، توفر أيضًا زخمًا قويًّا لأنقرة ودمشق لخلق توجهات جديدة نحو المصالحة. وتشكل هذه المصالحات جزءًا من مشروع سعودي إماراتي لإنهاء اعتماد دمشق على طهران، بدعم واضح من روسيا التي طورت علاقاتها مع السعودية والإمارات بعد تزايد “الشكوك حول الإدارة الأميركية الحالية” في الرياض وأبو ظبي. كما تحققت نجاحات في دعم التحولات التركية و”تصفير” المشاكل، مع توقف الرئيس أردوغان عن دعم الإسلام السياسي في المنطقة.
إن الطريق نحو المصالحة بين أنقرة ودمشق يواجه العديد من العقبات المرتبطة بتاريخ من انعدام الثقة والفجوات الكبيرة في القضايا الخلافية الرئيسية، سواء كانت عودة اللاجئين السوريين من تركيا إلى سوريا، أو أولويات مكافحة الإرهاب المختلفة، أو الوجود التركي على الأراضي السورية ودعم جماعات المعارضة السورية. وفي حين أن هناك بعض التقاطعات بين الجانبين في تفاصيل المفاوضات المفترضة، فإن تنفيذ أي اتفاقيات قد يتم التوصل إليها يتطلب موارد واسعة والتزامات زمنية. ويهدد التدخل الخارجي – وخاصة من إيران – في هذه المبادرات الثنائية بتعطيل العملية أو تغييرها بشكل كبير، وقد تؤدي الحالة المضطربة في المنطقة أيضًا إلى إيقاف هذه المحادثات مؤقتًا.
عن صحيفة The Washington Institute بقلم بقلم عمر الرداد 17 آب (أغسطس) 2024.