تواجه السياسة الروسية في سوريا مجموعة من الصعاب يجعل مهمتها السياسية والعسكرية صعبة جداً، بل هي أقرب إلى الإخفاق منها إلى النجاح، وليس أدل على ذلك من حاجة ضابط المخابرات السوفييتية السابق فلاديمير بوتين، الذي يستبد بحكم روسيا كما كان أيام الاتحاد السوفييتي، إلى تأييد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وأن يضطر بوتين في مناسبات عديدة للظهور وبتغطية إعلامية كبيرة بصحبة بطريرك الكنيسة الروسية منذ شنه للحرب على سوريا، فهذا الظهور والتحالف العلني بين الدين والسياسة لم يكن يحتاجه الاتحاد السوفييتي عندما احتل أفغانستان، أما بوتين فيحتاج إلى الكنسية الروسية، وفي ذلك دلالة على عدم قناعة الرئيس الروسي بوتين بأن الشعب الروسي يؤيد هذه العملية العسكرية في سوريا، فأراد أن يدعم موقفه السياسي بتأييد الكنسية؛ لتخفيف موقف المعارضة الشعبية الروسية، أو ليخدع الشعب الروسي والكنيسة بأن حربه في سوريا هي حرب مقدسة ضد المسلمين هناك.
والدليل الآخر على ضعف موقف بوتين السياسي هو اضطراره للكذب على الشعب الروسي والعالم، بادعائه أن حربه هي ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، في حين ثبت أن حربه في سوريا هي لدعم موقف بشار الأسد وحلفه الطائفي فقط، فأكثر من 90% من قصف الجيش الروسي الحربي كان على مواقع فصائل الثورة السورية المعتدلة وليس على داعش، حتى إن مؤتمر القمة الأوروبي الأخير في بروكسل “اتهم السياسة الروسية في سوريا بأنها تقوض عملية السلام وتدعم داعش”، وهذه تقارير أصدرت مثلها تقارير أمريكية ومن الأمم المتحدة، ومراقبون دوليون من داخل الأراضي السورية.
وعندما أعلنت روسيا وأمريكا اتفاق “وقف الأعمال العدائية” في سوريا دون أخذ مشورة الأطراف المتصارعة ولا الدول الإقليمية، أخذت إيران تبدي ترددها من الاتفاق، بل أصبحت تتقرب من تركيا، وأرسلت لأنقرة سفيراً جديداً فوق العادة لتحسين العلاقات مع تركيا، فقد تكون تركيا وإيران والسعودية جميعاً من الخاسرين من اتفاق وقف الأعمال العدائية وما سوف يترتب عليه، سواء تم التقيد به أمنياً وعسكرياً، أم تم البحث عن بدائله الأمريكية والروسية، وبشار الأسد أكثر انتقاداً لمشاريع روسيا في تقسيم سوريا، وإقرار مكونات سورية أخرى في الهيمنة على أراضي سوريا، فأعلن الأسد رفضه، وهو ما انتقده مندوب روسيا في مجلس الأمن، إذ انتقد مواقف بشار الأسد التي يدعي فيها بأنه يريد أن يعيد سيطرته على كامل الأراضي السورية، وهو ما تعتبره روسيا خروجاً عن الخطة الروسية التي أتت بها إلى سوريا لدعم حكومة بشار الأسد، فروسيا جاءت لإنقاذ الأسد بعد أن أصبح جيشه على وشك التهاوي للمرة الثانية بمنتصف تموز 2015، ولتجعل منه طرفاً قادراً على التفاوض السياسي في الحل النهائي لمستقبل سوريا، حتى تحفظ روسيا نفوذها ومصالحها في سوريا، حيث لا تزال روسيا تعتقد أن حكومة الأسد وحلفه الطائفي هي الجهة التي ستحفظ المصالح الروسية في سوريا، فالرئيس الروسي كذب على الشعب الروسي وعلى الدول العربية والإسلامية بأن تدخل روسيا في سوريا هو لضرب داعش، وقد قلد في هذه الكذبة أمريكا، على طريقة التحالف الدولي الذي أنشأته أمريكا لمحاربة داعش في سبتمبر 2014 في باريس، دون أن يحقق في العراق وسوريا إلا القتل والتدمير فيهما.
إن الوجود الروسي في سوريا قائم على كذبة كبرى وهي محاربة داعش، وقد ثبت كذبها أمام العالم، وهذا يتطلب، بل يجب على فصائل الثورية السورية أن تكشفها للعالم أجمع أولاً، وأن تكشف أمام العالم وأمام العالم العربي والإسلامي مدى الجرائم التي ارتكبها الجيش الروسي في سوريا، وأول الدول التي ينبغي أن تسلط إعلامها على العدوان الروسي على الشعب السوري هي الدول العربية والإسلامية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودول الخليج، لأن ضحايا القصف الروسي هم من الشعب السوري العربي والمسلم، وبالأخص من المسلمين السنة، حيث إن القصف الروسي يستهدف القرى والمدن السنية دون غيرها، وبالأخص في شمال سوريا، فلماذا يسكت الإعلام العربي الرسمي والشعبي عن جرائم العدوان الروسي على الشعب السوري؟ وبالأخص أن روسيا لا تحقق شيئاً من خططها إلا قتل الأبرياء والمدنيين.
إن القيادة الروسية أدركت بعد شهرين من بدء عدوانها على الشعب السوري بأن عملياتها العسكرية قد فشلت في تركيع المعارضة السورية لشروط الحل السياسي الروسي العسكري والسياسي، فعملت على تشتيت الأنظار إلى الخلاف الروسي مع تركيا، ولكن السياسة التركية أدركت أهداف بوتين، فأفشلت خطته في توسيع نوع الصراع ومداه وحصره في سوريا فقط، فتركيا خبيرة في كشف أكاذيب السياسة السوفييتية السابقة، التي أخذ بوتين يعود إليها في تورطه في المنطقة، وكانت تركيا قد أفشلت خطط بشار الأسد بهذا الشأن من قبل، كما أفشلت خطط إيران في توريط تركيا في الصراع السوري، حيث إن إيران افتضح أمرها داخل إيران وفي العالم العربي والإسلامي بأنها دولة طائفية وقاتلة للمسلمين بكل وحشية وكراهية طائفية. لقد حاولت القيادة الإيرانية توريط تركيا في الصراع السوري، في المرحلة التي فشلت فيها في القضاء على الثورة السورية في منتصف عام 2015، وأثارت على الحكومة التركية المشاكل الداخلية، بتحريض الأحزاب الإرهابية بالعودة عن خطة السلام الداخلي والقيام بأعمال إرهابية، ولكن الحكومة رفضت الانجرار وراء الحروب الطائفية والقومية، وأصرت على إبقاء الصراع في سوريا على أنه بين الشعب السوري ونظام حكم مستبد وقاتل، وأن تركيا كانت تدعم الشعب السوري إنسانياً، وتحمي حدودها من أي تهديد أمني مهما كان مصدره.
لقد فشلت الخطة الروسية في إحراج تركيا في علاقاتها مع داعش، وثبت أن روسيا متورطة في التعاون مع تنظيم داعش بضرب مواقع فصائل الثورية السورية المعتدلة، فقد كانت روسيا تقدم الغطاء الجوي في هجمات داعش على فصائل الثورة السورية، بما يخدم نظام بشار وحلفه الطائفي، حتى لو كانت غير مدركة لذلك، وكذلك، وبعد أربعة أشهر من القصف الروسي العشوائي والتدميري، والانتقامي من الشعب السوري لأنه يدعم فصائل الثورة السورية، أدركت روسيا أنها وصلت إلى نهاية أهدافها من العمل العسكري ، وأنها أمام تخبط عسكري، وأنها أيضاً أمام تخبط سياسي، فكانت مؤتمرات فيينا ثم جنيف ثم إعلان اتفاق “وقف الأعمال العدائية” الأخير ، الذي تم انتهاكه في اليوم الأول بعمليات إرهابية قام بها جيش الأسد وحده، في حين امتنع الطيران الروسي عن القيام بأية غارات عدوانية في اليوم الأول، وكذلك امتنعت فصائل الثورة السورية عن القيام بأية أعمال عسكرية في اليوم الأول أيضاً، ولكنها تجددت في الأيام التالية، فهذه الانتهاكات لوقف إطلاق النار من جيش بشار الأسد، وامتناع الطيران الروسي عن القيام بأعمال القصف على الشعب السوري- ولو ليوم واحد فقط- يثبت أن روسيا فقدت ثقتها بدورها العسكري في سوريا، على الرغم من قساوته وإجرامه وعنفه وإرهابه في الأشهر الماضية.
إن روسيا أمام ورطة وجودها العسكري في سوريا ودورها فيه، فهي خسرت الخيار العسكري، والطيران الحربي الروسي المتفوق لم يستطع أن يحسم المعركة مع المعارضة السورية، ولم يأت الجيش الروسي ليحارب لأشهر ولا سنوات، وخطط روسيا السياسية آخذة بالفشل واحدة بعد الأخرى من فيينا إلى جنيف إلى الاتفاق الثنائي مع أمريكا، إلى الدعوة لنظام فيدرالي في سوريا، وهو أقرب إلى الحلم منه إلى المشروع السياسي، وروسيا اليوم تخشى أن ينكشف فشلها ويصبح ضغطاً عليها في الداخل والخارج، ويبدو أن لافروف يحاول الهروب من السفينة قبل غرقها، فإذا قامت الدول العربية وتركيا باستغلال الضعف الروسي بعد الإيراني فإنها سوف تمتلك أوراقاً قوية في الصراع السوري، ولذلك فإن روسيا تخشى اليوم أن يتحول مشروعها في سوريا إلى مشروع عدواني واضح وصريح ضد الشعوب العربية والإسلامية، وبالأخص أن روسيا لن تستطيع استخدام فزاعة الكذب “داعش” إذا دخلت تركيا والسعودية في التحالف الدولي لمحاربة داعش أيضاً.
هذه المخاوف أصبح المحللون الروس يذكرونها تحسباً لما سوف تواجهه روسيا من ضغوط عربية وإسلامية وعالمية سوف يرتفع صوتها عالياً لرفض الوجود الروسي في سوريا ودورها فيها، فإعلان الدول العربية وتركيا عن استعدادها لمواجهة أهداف الاحتلال الروسي في سوريا، هو رسالة إلى روسيا بأن فزاعة داعش يمكن استخدامها من العرب والأتراك أيضاً، وليس من الروس والأمريكان فقط، وفي سوريا تحديداً، وما دام أنها ضمن التحالف الدولي فلا تملك روسيا ولا إيران ولا بشار الأسد أن يمنعها من ذلك، لأن التحالف الدولي يملك قرارات دولية من مجلس الأمن لمكافحة الإرهاب في كل مكان في العالم، ولذلك أعلن عقيد الاستخبارات الروسي السابق “بول باسانتس” أن “موسكو باتت متخوفة من جدية السعودية وتركيا ودول عربية أخرى في القيام بعملية برية في سوريا، مما قد يؤدي إلى نشوب حرب إقليمية غير مضمونة النتائج، واتخاذ الأزمة أبعاداً خطيرة”.
إن دخول دول عربية أو دول إسلامية إلى سوريا، وهي تملك هذا الحق بحكم أن الضحايا من العرب ومن المسلمين، سوف يكشف الغطاء عن حقيقة العدوان الروسي على سوريا، وقد حاولت روسيا الالتفاف على هذه المواجهة من خلال فتحها شهية الدول العربية الخليجية وتركيا بمشاريع اقتصادية كبيرة مع روسيا قبل بدء العدوان الروسي على سوريا بتاريخ 30/9/2015، لضمان سكوت هذه الدول على الأعمال العدوانية التي سوف ترتكبها روسيا، وقد خدعت روسيا الدول العربية، التي لم تستنكر القصف الروسي العشوائي للمدارس والمستشفيات والأسواق والمساجد بهذه الخديعة الروسية، بينما أوضحت تركيا رفضها للاحتلال الروسي، عندما أعلن أردوغان بأن مهمة ثورة الشعب السوري أصبحت أكبر؛ لأنه مطالب أن يقوم بتحرير سوريا من الاحتلال الأجنبي، وهو يقصد الوجود الروسي في سوريا، مما يتطلب من الدول العربية أن تقوم بعملية إعلامية واسعة ضد الوجود الروسي في سوريا، فهذا واجب أخوي نحو الشعب السوري، وهو في نفس الوقت مساعدة إنسانية للشعب الروسي وللحكومة الروسية أيضاً، لأن أمريكا سوف تفشل وقف إطلاق النار، وسوف تجعل خسارة بوتين وروسيا في سوريا كبيرة، ولكن الخسارة المقابلة لها هي من الدماء والأرواح العربية والإسلامية، فالضغوط العربية والإسلامية المطلوبة ينبغي أن تزداد لإخراج الاحتلال الروسي من سوريا، وهذا سيتبعه انهيار لكل تبعات الاحتلال الإيراني أيضاً.
إن السياسة الروسية في ورطة كبرى، لن تستطيع الخروج منها إلا بانسحابها من سوريا قبل فوات الأوان، فالمصالح الروسية الكبيرة في سوريا والمنطقة لن يضمنها بشار الأسد ولا الحكومة القادمة التي يسعى الروس لإيجادها بالأوهام الأمريكية، والسياسة الأمريكية سياسة مراوغة تحاول إرضاء الجميع، فهي تحاول إرضاء السعودية والدول العربية، وإرضاء روسيا وتركيا والدول الأوروبية، كما تحاول أن تظهر دعمها لفصائل المعارضة السورية، بينما هي أقرب إلى إرضاء الحكومة الإيرانية وبشار الأسد، ومجرد طرح أمريكا حديثها عن وجود خطة بديلة لاتفاق وقف الأعمال العدائية مع روسيا، مع نفي روسيا الرسمي لذلك، هو دلالة على أن أمريكا تراوغ الروس والعرب والأتراك والإيرانيين ضمن رؤية واضحة واستراتيجية بالنسبة لأمريكا، وهي استدامة الصراع في سوريا حتى استهلاك الجميع لكامل إمكاناتهم في سوريا، وفي غيرها من البؤر المشتعلة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، فهل يستخدم العرب أوراق ضغطهم على روسيا، وبالأخص الأوراق التي تخشاها موسكو؟
محمد زاهد جول – الخليج أونلاين
ترك برس