تسعى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، المتبنية لرؤية السلام في المنطقة، إلى دمج الكيان الإسرائيلي في أحلاف إقليمية قبل التوصل إلى حل القضية الفلسطينية.
فما هي سياقات التطبيع ومظاهره ومخاطره؟ وما هو موقف الأطراف الفاعلة؟ وإلى أي مستوى يمكن أن يصل؟
خطوات تطبيع معلنة:
الزّيارات المتبادلة المعلنة بين قيادات إسرائيلية وأخرى عربية، وخصوصاً زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لسلطنة عمان سابقاً، وسماح دول خليجية لوفود رياضية بدخول أراضيها، تظهر أولى خطوات التطبيع، كما أن هناك زيارات أخرى أخذت طابعاً أقرب للعلني، والتي يعزوها مراقبون إلى رغبة الإدارة الأمريكية في جس النبض العربي قبل إعلان مبادرة السلام، وسعي الإسرائيليين لتطبيع العلاقة مع الدول العربية وتجاوز الإرادة الفلسطينية، في خطوة تهدف لفصل المسارين بعضهما عن بعض، أو للضغط على الفلسطينيين لخفض سقف التطبيع.
من هذه الخطوات أيضاً: تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط بمصر، الذي ضم سبع دول، من بينها إسرائيل بالإضافة إلى (فلسطين، وقبرص، واليونان، وإيطاليا، والأردن، ومصر) هو الآخر له دلالة كبيرة في الموضوع، إذ إن له أهدافاً سياسية أكبر من الأهداف الاقتصادية؛ فمن أهدافه إنشاء سوق غاز إقليمية تضمن تأمين العرض والطلب للدول الأعضاء، بما يعني تأمين وصول الغاز الإسرائيلي للعرب والأوروبيين، دون اعتبار لإرادة الشعوب الرافضة للتطبيع ولمشروعية هذه الصفقات باعتبارها أن إسرائيل دولة محتلة للأراضي الفلسطينية.
كيف يتم التطبيع وما أسبابه:
تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يرى أن هناك مصالح مشتركة بينهم وبين دول عربية أخرى، تهدف إلى التعاون في مجالات التقنيات والمياه والزراعة والطب وغيرها، ويراها آخرون لمواجهة الخطر الإيراني في المنطقة، كما تأتي كذلك في ظل خلاف عربي عربي، وخاصة الخلاف الخليجي، إضافة إلى اشتداد الأزمة في دول الربيع العربي، التي ولّدت حالة من الانقسام العربي، وأحدثت نوعاً من الهرولة نحو التطبيع، إضافة إلى الخلاف الفلسطيني القديم، الذي يكمن بين خيارين: المقاومة الذي تتبناه (حماس)، والتسوية الذي تتبناه (فتح).
في الشأن ذاته أعلنت المبعوثة الأمريكية في الأمم المتحدة، نيكي هايلي، في ديسمبر 2018، أن خطة ترامب لتسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي اكتملت، بعدها دعا مسؤولون كبار في البيت الأبيض، يوم الخميس 17 يناير/كانون الثاني 2019، دول منطقة الشرق الأوسط لمساعدة الفلسطينيين والإسرائيليين للتوصل إلى صفقة بينهما، مؤكدين عزمهم طرح مبادرة سلام أكثر تفصيلاً من المبادرة العربية للسلام.
وتأتي هذه التصريحات بعد يوم واحد من تسريبات لوسائل إعلام إسرائيلية أن الصفقة ” تتضمن إعلان دولة فلسطينية على 90% من أراضي الضفة الغربية المحتلة مع عاصمة تشمل أجزاء من شرقي القدس “، وهي التسريبات التي رد عليها الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، بقوله: ” إن أي خطة سلام أمريكية مع إسرائيل لا تتضمن إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية بالكامل على حدود عام 1967، سيكون مصيرها الفشل”.
الموقف من التطبيع:
أولا: الموقف الفلسطيني:
تتمسك السلطة الفلسطينية بمطلب إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة، وأظهرت خلال السنوات الماضية مرونة كبيرة تجاه قضايا الصراع الأساسية، ومع ذلك رفضت إسرائيل جميع مقترحات السلام المقدمة، وعملت بشكل واضح على تقويض أركان السلطة ومؤسساتها، وخاصة في مدينة القدس التي صعَّدت إسرائيل مؤخراً من حربها على وجود السلطة فيها.
في المقابل كانت تصر حماس على رفض كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، وترى أن ” التطبيع مع إسرائيل خيانة لشعوب الأمة وقيمها وأخلاقها، وغدر بتضحيات الشعب الفلسطيني” ، كما جاء على لسان رئيس الحركة في الخارج ماهر صلاح، إلا أنه في الفترة الأخيرة ذكرت وسائل إعلام إسرائيلية، مساء أمس الإثنين، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو سيصادق على دخول 30 مليون دولار لقطاع غزة، ضمن تفاهمات على التهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، ما سيحدث تغيرا في الموقف ربما.
وقالت قناة “كان” الإسرائيلية، إن “نتانياهو سيصادق على إدخال 30 مليون دولار من قطر إلى قطاع غزة، في جزء من تفاهمات وقف إطلاق النار“.
ولم تعلن الفصائل الفلسطينية أو إسرائيل بنود اتفاق التهدئة، ووقف إطلاق النار الذي أُعلن فجر الإثنين، بعد تصعيد استمر 3 أيام.
ثانيا: المواقف العربية الرسمية:
طفت مؤخرا على الساحة زيارات من قبل قيادات إسرائيلية وفرق رياضية إلى دول عربية فإضافة إلى زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي لعُمان، احتفت الإمارات بفوز لاعب إسرائيلي بالذهبية، في أكتوبر 2018، وزارت وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية (ميري ريغيف) دولة الإمارات لحضور مباريات جودو، في حين شارك فريق إسرائيلي في بطولة دولية للجمباز في قطر، في الشهر نفسه من العام، إضافة إلى التلميحات التي أطلقها رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الجنرال غادي إيزينكوت، بإمكانية التعاون بين إسرائيل ودول أخرى عربية من أجل الحد من النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.
لن يكون التطبيع مرفوضا من قبل حكومات ثلاث دول عربية اعترفت سابقاً بإسرائيل، وهي (مصر، والأردن، وموريتانيا)، وهناك دول أخرى كانت لها علاقة دبلوماسية بإسرائيل قبل اندلاع الانتفاضة الثانية، كالمغرب وتونس، بالإضافة إلى دول أخرى كانت لها علاقات اقتصادية بإسرائيل مثل قطر وسلطنة عمان.
في حين أصدر رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ خليفة بن زايد، مرسوما يلغي قانونا صدر عام 1972 بشأن مقاطعة إسرائيل.
وتم الإعلان عن معاهدة سلام بين البلدين في وقت سابق من الشهر الحالي، تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والدبلوماسي مع إسرائيل.
وحسب بعض المراقبين فإن خمسة عشر نظاماً عربياً يقيمون علاقة بشكل ما مع إسرائيل، ولعل هذه الأنظمة أصبحت ترى في القضية الفلسطينية عبئاً يجب إنهاء ملفه بأي شكل كان.
ثالثا: موقف المجتمع الدولي من التطبيع:
على الرغم من مرور سبعين سنة تقريباً على تأسيس كيان الاحتلال الإسرائيلي، ما زالت مشروعيته غير مكتملة على المستوى الإقليمي، إذ لا تعترف به سوى ثلاث دول عربية هي: مصر (1978)، والأردن (1994)، وكذلك موريتانيا التي اعترفت به رسمياً عام 1999، واقتصرت علاقة الاحتلال مع بعض الدول العربية على مستوى ممثليات اقتصادية وتجارية. وقد تعرضت العلاقات لسحب السفراء ووقف الممثليات عند تصعيد الاحتلال للعنف.
مؤخراً استطاعت حكومة الاحتلال استثمار حالات الصراعات التي تمر بها بعض الدول العربية، وتعدد مصادر التهديد، وحاجة بعض القيادات العربية إلى الدعم الغربي، في تكثيف التواصل معها، وتعمد المجاهرة بتلك العلاقات، والظهور بصورة الحليف الحريص على دول المنطقة والقادر على مواجهة الخطر الإيراني.
حالياً تعترف بإسرائيل 157 دولة عضواً في الأمم المتحدة، ولا ترى هذه الدول غضاضة في التعامل مع إسرائيل، في حين أن هناك 32 دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لا تعترف بإسرائيل رسميّاً، بما يعني أن بعض هذه الدول قد ترتبط بتعامل غير رسمي مع إسرائيل.
توقعات التطبيع:
يظهر مما سبق أن هناك ثلاثة توقعات يمكن أن تتمخض عنها مظاهر التطبيع هذه، فالأول يتمثل بالالتزام بالتطبيع بصيغته الأمريكية التي لم تُعرف تفاصيلها كاملة بعد، لكن الملاحظ من خلال التصريحات أنها تختلف في بعض بنودها عن الصيغة العربية، وفي حال كانت مختلفة عن الصيغة العربية فسيظهر تيار آخر رافض لهذه الصيغة ومتمسك بالصيغة العربية، وهناك توقع ثالث سيظل رافضاً للتطبيع بكل صوره.
التوقع الأول: التطبيع بشكل جزئي:
يفترض هذ السيناريو إقدام بعض القيادات العربية على التطبيع، امتثالاً للضغوط الإسرائيلية والأمريكية، في ظل تصاعد التوترات المحلية والتهديدات الإيرانية، وقد تدفع هذه القيادات في اتجاه تعديل المبادرة العربية للسلام ومقاربتها مع المبادرة الأمريكية التي لا تحقق المطالب الفلسطينية.
التوقع الثاني: قد يرفض نهائيا:
يتوقع هذا السيناريو أن تُفشِل الشعوب العربية التطبيع؛ لكونها ترى في إسرائيل العدو الأول وفي القضية الفلسطينية القضية الأولى، كما هو خيار حركة حماس التي ترفض التطبيع بكل أشكاله، وما يضعف هذا السيناريو انشغال الشعوب العربية بقضاياها الداخلية، وإصرار بعض القيادات العربية على التطبيع.
مع كل هذا فإن خيار التطبيع، بأي صيغة كان، إن تم فإنه سيظل بعيداً عن الشرعية الشعبية، وستظل مظاهره معزولة عن الاعتراف الشعبي.
التوقع الثالث: التطبيع بشكل كامل:
بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي القدس عاصمة لإسرائيل، يبدو أن الإدارة الأمريكية ترغب في فرض الصيغة الأمريكية للسلام إرضاء لإسرائيل، وهي الخطوة التي كان من المفترض الإعلان عنها منذ وقت مبكر، لكن نتيجة انشغال دول عربية تعول عليها أمريكا كثيراً في التعاطي الإيجابي مع المبادرة بقضايا داخلية، أُخِّر إعلانها.
يبدو أن وباء التطبيع الذي يجتاح المنطقة العربية بشكل سافر واستفزازي أكثر خطورة وكارثية من وباء كورونا، حيث مَوجة الأخير في طريقها إلى التراجع والانحسار، وآثار وتكاليف التطبيع ستكون أكثر فداحة، لأنها تمسّ نسيج الأمة وتاريخها وتطيح بالكثير من عوامل صمودها واستمرارها، في ظل الموجة الراهنة من الحروب (الجديدة) التي تقودها الإمبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية, على نحو يُنذر بما هو أخطر من مجرد تعريب وباء التطبيع الذي يجب التصدي له قبل أن يتجذّرَ ويقوى عود الخوارج الجُدد.
ولا يخفى على أحد الانحدار المدوي، أو قل الانكشافة الخطيرة، لموقف بعض الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية وسعيها الحثيث للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني وإقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع الكيان المجرم الذي يحتل أرضا عربية بقوة الإرهاب الدموي ويمارس إلى هذه اللحظة حرب التهويد والاستئصال على أرض فلسطين في مجزرة مفتوحة ضد البشر والشجر والحجر.
محمد إسماعيل/ المركز الصحفي السوري