الفيلل الفاخرة التي تطل من التلال في الجانب الآخر من الجدار الحدودي مع لبنان، تعطي الانطباع بانه لم تكن هنا ايضا حرب، وبالتأكيد ليس في السنوات الاخيرة. فعلى طول الطريق من كيبوتس افيفيم شمالا يمكن النظر الى المشهد الشاعري الذي يلف المنطقة. الهدوء الذي يأتي بعد العاصفة.
«كل شيء يبنى من جديد وتوجد حياة»، يقول رجل جيش لبنان الجنوب الذي رافق الجولة على طول الحدود الشمالية، ويسارع الى أن يشرح الى أين اختفت الخرائب من الحرب اياها: «البيوت الكبيرة التي ترونها في القرى المجاورة للحدود هي مال من الخارج – من دول الخليج او من أماكن اخرى». ولكن السكينة والاعمار في المدخل الجنوبي من لبنان لا يرويان الا جزء من هذه الدولة، بعد عقد من الحرب الاخيرة في المنطقة. عمليا، فان القول انه كانت هنا الحرب «الاخيرة» مضلل بعض الشيء. ففي الطرف الاخر من الحدود ليس هذا سوى فصل عنيف ونازف آخر في تاريخ الدولة المنقسمة والممزقة.
كما ان الهدوء ليس حقا هدوء، ولكن هذه المرة لا يبعثون في بيروت بالسهام نحو اسرائيل. «محافل عديدة في لبنان تؤمن بانه في اطار التفاهمات الهادئة بين اسرائيل وحزب الله لن تكون مواجهة اخرى في المدى المنظور»، يقول لـ «هآرتس» ع، نشيط سياسي في لبنان يعارض حزب الله. «بعد بدء الحرب في سوريا والتدخل المباشر لحزب الله هناك، فان سيناريو المواجهة على نمط 2006 دحر اكثر فاكثر». نعم، الحرب الاهلية المضرجة بالدماء في سوريا، والتي انجر اليها بغير ارادته السكان في لبنان ايضا هي ما يشغل بال الجارة الشمالية هذه الايام. فهي ساحة المواجهة الحالية، التي تجعل من الصعب على المواطنين ان يأملوا عن حق وحقيق في أن ينجحوا في ترميم حياتهم.
وبالذات في نهاية حرب لبنان الثانية، كانت للسكان اسباب وجيهة للتفاؤل. فقد كان الضرر هائلا لا شك – فالضاحية الجنوبية من بيروت، والمتماثلة جدا مع حزب الله، دمرت تماما، وفي صورة وضع مشابهة كانت في منطقة جنوب لبنان، في عشرات القرى والبلدات الشيعية. والارقام جعلت الصورة اصعب فاصعب.
اكثر من 1.200 قتيل، منهم مئات من مقاتلي حزب الله، الاف الجرحى، اكثر من مليون شخص تركوا بيوتهم ونحو مئة الف منهم تركوا لبنان نفسه؛ الضرر الاقتصادي قدر بـ 2.8 مليار دولار. ليس اقل؛ وكان ايضا ضرر محيط هائل في البحر وفي البر، ضمن امور اخرى جراء القذائف العنقودية. ولكن مع انتهاء المعارك حصل السكان على الامل.
«في الوعي اللبناني والعربي عامة، فان حزب الله بشكل عام وزعيمه حسن نصرالله بشكل خاص اعتبرا كمن حققا نصرا سياسيا واستراتيجيا مثيرا للانطباع»، يقول ك، صحافي يعيش في بيروت. «منظمة العصابات التي صمدت لشهر امام الجيش الاقوى في الشرق الاوسط». بعد سنتين من ذلك، مع تحرير سمير قنطار من السجن الاسرائيلي، اصبح حزب الله اسما مرادفا للنجاح. وبالتوازي، فان الجيش اللبناني الذي أقام مواقع على طول الحدود بدأ يساعد السكان المدنيين بينما استعان حزب الله بايران لغرض اعادة بناء مخزونه من السلاح.
ولا تزال تتبقى مسألة مركزية لم تجد حلها: الدمار الواسع. بالنسبة للبنى التحتية عملت الحكومة بسرعة على اعادة بناء المطار في بيروت وشبكات الاتصال. ولكن بالنسبة للسكان الشيعيين، المتماثلين جدا مع حزب الله والذين عانوا اشد المعاناة من الحرب، لم يتبقَ تمويل كثير. لم يكن هناك حل لمئات الالاف الذين بقوا بلا مأوى. «في المنظمة وفي الحكومة اللبنانية فهموا في حينه بان ليس بوسعهم احتمال كلفة اعادة البناء»، قال لـ «هآرتس» أ، صحافي لبناني مقرب من حزب الله. وعليه، يقول، فقد بدأت بالتجند العام للمال. والى جانب المنظمات المحلية، كان هنا لايران ايضا موطيء قدم، حيث نقلت الاموال في صالح التعويض لمن فقدوا بيوتهم في الحرب. ويتذكر أ، فيقول: «اتذكر انهم دفعوا نحو 10 الاف دولار لكل عائلة، وهذا بالحساب اللبناني مبلغ هائل اعطى الهواء للناس ممن كانوا في ضائقة حقيقية».
ولكن مع كل الاحترام لطهران، فان من قرر النبرة الاساسية في عملية الاعمار كانت الدول العربية الغنية، كاتحاد الامارات، السعودية وقطر، التي ساهمت بمئات ملايين الدولارات. فالحكومة القطرية وحدا تبرعت باكثر من 300 مليون دولار وأخذت على عاتقها مسؤولية اعادة البناء للبيوت في 30 بلدة تضررت أكثر من غيرها. ويقول لـ «هآرتس» الحاج يوسف من سكان الخيام في جنوب لبنان انه «للحقيقة يمكن القول ان الاغلبية المطلقة من البيوت اعيد بناؤها. أما من قرر أخذ المال ومغادرة المكان فهو وحده من بقي بيته مهدما. وهذا يثقل على البنى التحتية». عمليا، عدد اللاجئين الذين اجتازوا الحدود الى لبنان يقدر بمليون. وهؤلاء شوشوا تماما سوق العمل في الدولة. فلما كان العامل السوري يحصل على اجر بنحو 40 في المئة اقل من نظيره اللبناني، فقد طرأ ارتفاع متطرف في البطالة بين السكان المحليين.
أجنبي يعلق في شوارع بيروت لن يشعر بالازمة على الفور. فالمدينة كلها، باحيائها المختلفة، رممت تماما منذ الحرب قبل عقد. والسياح هم ايضا عادوا. عمليا السياحة هي اليوم المرسى الاقتصادي الاساس للبنان. وصحيح لشهر ايار الاخير كان اشغال الفنادق في العاصمة اللبنانية 66 في المئة. يمكن التطلع الى اكثر، ولكن الاجانب يأتون. ومع ذلك لا يزال التهديد السوري ومقتضياته يلوح في الهواء. ومثال ملموس عليه جاء في تشرين الثاني الماضي مع مقتل اكثر من 40 شخصا في عملية مزدوجة نفذها داعش في بيروت. وهكذا تكاد تكون كل الطرق الى مستقبل لبنان تؤدي الى دمشق.
ويضيف الحاج يوسف فيقول ان «حقيقة أنه يوجد غير قليل من الشبان ممن خرجوا الى الحرب في سوريا تساهم في التوتر. فاليوم في جنوب لبنان ينظروا شرقا وشمالا في اتجاه سوريا وقلقون اقل من الحدود مع اسرائيل».
وبجوار تلك الحدود، على طريق الشمال، يتساءل رجل جيش لبنان الجنوبي سابق الى اين بالضبط تهب الريح، وهل في اتجاه واحد فقط. فالبناء الجديد الواسع على التلال، والذي تطلب استثمارا ماليا غير قليل هو «رسالة تقول اننا نتجه حاليا نحو فترة من الهدوء، على امل أن تكون طويلة باكبر قدر ممكن»، كما يقول. وروى لي شخص اعرفه في الطرف الاخر من الجدار، وتحدثت معه مؤخرا بان «الناس يتدبرون امورهم: هناك شباب تركوا متجهين الى بيروت او هاجروا الى الخارج، وهناك الكثيرون ممن يعملون في مؤسسات الدولة، بما في ذلك في جهاز الامن وهناك من لا يزالون يرتزقون هنا من الزراعة، ولا سيما التبغ». وعلى حد قوله، فان كل الاراضي الخضراء التي تحيط بالمنطقة هي مزروعات تبغ، تشتريها الدولة من المزارعين. ويقول ان «الناس ليسوا أغنياء وليس كل شيء متطورا بعد. ولكن يمكن القول انه بعد عقد من السنين يوجد هدوء في جنوب لبنان. فهل هذا بسبب التفاهم أم بسبب الردع؟ يمكن للجوابين ان يكونا صحيحين». وعلى أي حال، فهو لا يشك اليوم ايضا بانه واضح للجميع بان صاحب السيادة الحقيقي في جنوب لبنان هو حزب الله، وكل ما تبقى هو «الانتظار لرؤية الى اين تؤدي الحرب في سوريا وهل ستغير في نهاية المطاف الامور في لبنان».
صحف عبرية