غادر فورد وزارة الخارجية الأمريكية سنة 2014 محبطاً حيثُ صرّح بأنّه لم يعُد بمقدوره الدفاع عن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بشأن سوريا.
لطالما شهِدت إدارة الرئيس أوباما انقساماً بشأن ما ينبغي فعله حيالَ سوريا، ولعلّ المسألة السورية كانت مثاراً لأبرز الخلافات بين الرئيس أوباما و أول وزراء خارجيته هيلاري كلنتون، في الواقع فإنّ حجم الهوّة في السياسة الأمريكية اتسع خلال سنوات الصراع الخمس والتي تشير التقارير إلى أنها قد أودت بحياة ما يقارب النصف مليون إنسان.
كانت الخارجية الأمريكية قد أشارت باقتضاب إلى أنّ ما يزيد عن خمسين دبلوماسياً أمريكياً تقدّموا برسالة شكوى حول سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بخصوص سوريا وذلك عبر خدمة “ديسنت تشانيل” وهي أشبه بصندوق شكاوى يستطيع منسوبو الخارجية عبره التصويت بمعارضتهم للسياسة الرسمية دون أن يخشوا خطر الانتقام الوظيف، بينما أبلغ وزير الخارجية جون كيري صحفيين أثناء جولته في أوروبا بأنّ “هذه العريضة مهمة للغاية قائلاً “أنا أحترم تلك العملية كثيراً وقد ألتقي بهؤلاء الأشخاص ولربما تكون لدينا فرصة التحدّث بعد عودتي”
كان روبرت فورد آخر السفراء الأمريكيين الذين خدموا في سوريا التي مزّقتها الحرب، وقد تجرّأ على زيارة مناطق المعارضة والإجتماع بالمتظاهرين وتقديم العزاء لأسرة أحد الناشطين وذلك عشيّة اندلاع الثورة السورية سنة 2011، إلا أنه تمّ سحب السفير فورد من دمشق لدواعٍ أمنية وذلك بعد اندلاع الحرب الأهلية في وقت متأخر من نفس العام. وقد اتهمت وزارة الخارجية الأمريكية نظام الرئيس بشار الأسد بالتحريض ضد السفير فورد
تمّ الإتفاق في مؤتمر جنيف 1 حول سوريا الذي انعقد في حزيران 2012 على الحاجة لحكومة انتقالية تضمّ كل من النظام والمعارضة وذلك بحضور ومشاركة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلاّ أنّه وبحلول سنة 2014 أخذت الحرب الأهلية تصبح أكثر ضراوة مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وهي حركة متطرفة تمكنت من الاستيلاء على قطاع واسع من مناطق شمال سوريا بما فيه الرقة عاصمة الخلافة للتنظيم، وكذلك دير الزور سابع أكبر المدن السورية بالإضافة لبعض المناطق الاستراتيجية الأخرى.
في سنة 2014 حاز فورد على جائزة خدمة الوزارة، أعلى تكريم تمنحه وزارة الخارجية، وكونه أحد أبرز الخبراء المختصين بشؤون الشرق الأوسط نظراً لخبرته المطوّلة فيها، فقد استمرّ فورد في عمله المتعلّق بالشأن السوري من واشنطن حتى مغادرته وزارة الخارجية مُحبَطاً إثرَ تردد الإدارة الأمريكية في تقديم دعم أكبر للمعارضة السورية حيث أخبرني بأنه: ” لم يعد بمقدوري الدفاع عن سياسة الولايات المتحدة”، فورد الذي يشغل اليوم منصب زميل رفيع في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة حيث جلست بصحبته يوم الجمعة الماضية لمناقشة المستنقع السوري، وقد تمّ تلخيص وتحرير هذه المقابلة لأغراض الإيضاح.
ما الذي تعكسه رسالة الشكوى هذه
لقد وصل الإحباط في وزاة الخارة الأمريكية إلى نقطة حرجة، لا يسجل الناس شكاويهم في صندوق الشكاوى كل يوم، لقد سقط اتفاق الهدنة في سوريا بالكامل، إن استهداف المشافي في حلب وإدلب يمثّل انتهاكاً لكافة الأعراف البشرية، هذا إذا لم نتحدّث عن البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية وبالتالي فإن الجهود الرامية لإيجاد حلّ سياسي لا يبدو أنها ستُبصر النور، ترفضُ حكومة الأسد حتى الآن تقديم أي تنازلاتٍ فعليّة، لا تسمح بالمعونات الغذائية في انتهاك صريح لقرارات الأمم المتحدة فيما يكتفي الأمريكيون بمتابعة ذلك وحسْب، وبذلك فإنّ رسالة الشكوى تعكس حجم الإحباط الذي يسود في أوساط أولئك الذين ينفّذون السياسة على أرض الواقع- وهذا بالضبط ما شعرت به حين غادرت عملي- بعد مؤتمر جنيف 2، في كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير سنة 2014.
لماذا يهيمن الفشل على السياسية الحالية ويبدو أنه سوف يلازمها أيضاً؟
في الواقع لا أجد في رسالة الشكوى ما يعكس اعتراضها على الهدف الستراتيجي المتمثّل في التوصل إلى حلّ تفاوضي للحرب الدائرة في سوريا، غير أنني أشعر باعتراضها الشديد على التكتيكات التي تنتهجها الإدارة أو تلك التي لا تنتهجها، ترمي الرسالة إلى القول بأنّه من دون ضغوطات أشدّ على نظام الأسد سيكون من المستحيل الحصول على التسويات الضرورية للخروج باتفاق سياسيّ ينهي الحرب، تقول الرسالة بأنّه يتعيّن على الإدارة الأمريكية إعادة النظر في تكتيكاتها بهدف تشكيل هذا الضغط المنشود على نظام الأسد.
جميعنا تعلّم من التجربة العراقية بأنّ تغيير النظام ليس الطريقة الأمثل لإحداث التغيير السياسي الإيجابي، في حالة الحرب الأهلية ثمّة حاجةٌ ملحّة للتفاوض بين المعارضة والحكومة، والسؤال الحيوي هنا هو كيف يمكننا زيادة احتمالات نجاح هكذا مفاوضات، وهذا ما فشلت به السياسة الأمريكية منذ أنهت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون اجتماعها بسيرغي لافروف.
هل تلقي باللائمة على الرئيس أوباما؟
لا أريد أن ألقي بلومي على شخص بعينه، لطالما شهدت الإدارة انقساماً حول الأسلوب الواجب انتهاجه في سوريا، لم يكن الرئيس وحده من كان متردداً في اللجوء إلى كافة الوسائل المتاحة لتوليد الضغط.
لعل أحد وجوه الإحباط التي نجدها في رسالة الشكوى يتمثّل في أنّ أولئك الذين يدافعون عن النهج الحالي والاستمرار فيه عبر إلحاحهم على ضرورة الخيار الاستراتيجي- لا يضعون أيّ وسائل لتحقيق هذا الهدف! إنّ الأمل ليس سياسة، ولا يمكن له أن يشكّل وحده أساساً لها حين يترتب على ذلك آثاراُ سياسيةً مباشرة على أعضاء حلف الناتو في حين دأبت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية على ترديد ما فحواه بأنّ على أوروبا أن تبقى موحدة لتكون أقوى ولتتجنّب الصراعات الداخلية، تعود هذه العقيدة السياسية إلى عهد الرئيس هاري ترومان، لتكون أكثر قوة ولتتجنّب ضغوط موسكو عليها وبالتالي لتجنّب دخولها في المزيد من الحروب، أمّا الآن فإنّ جوهر الوحدة الأوروبية يخضع للمساءلة، لا يتعلق ذلك مطلقاً بأزمة اللاجئين، على العكس فإنّ الأمر يتعدّى سوريا، هذا ما لم نكن نتوقعه سنة 2012، لم يكن لدي خلاف مع الوزير جون كيري، هو يعي الحاجة لتشكيل المزيد من الضغوط على الأسد، كما أنّ الوزيرة كلينتون ساهمت في بذل المزيد من الجهود مع المعارضة كوسيلة لإيجاد صفقة سياسية، كان ذلك سنة 2012.
ما هو الأثر الذي قد تُحدِثُه هذه الرسالة؟
لا أرى مؤشراً من خلال المقابلات المطولة مع الرئيس أوباما أو نائب مستشار شؤون الأمن القومي بين رودس يظهِر استعدادهم لإجراء عملية إعادة نظر جادّة بخصوص المسألة السورية، لذا فإنّه من غير المتوقّع أن يكون للرسالة ذلك الأثر الكبير.
كيف تبدو الأمور في سوريا اليوم بعد مضيّ خمس سنوات؟
لقد انبثقت الحرب من انتفاضة شعبية عارمة طالبت بتغييرات في المؤسسات الأمنية ثمّ ما لبِثت أن تحوّلت إلى صراع دوليّ تورّطت فيه أطراف إقليمية ودولية وتسبّب بتدمير أجزاء كبيرة من سوريا كما أدّى لإضطرابات بلدان في أوروبا، ناهيك عن ظهور الأشكال الأكثر خبثاً للتطرف الإسلامي التي عرفناها حتى الآن.
بالعودة لسنة 2012، فقد توقّعنا في وزارة الخارجية بأنّ هذه الحرب تتجه إلى المزيد من السوء وأنّها راحت تصبح أكثر طائفيةً، لكنّ أحداً لم يفهم إلى أي حدّ سوف تتمكن الحكومة السورية من الإمساك بزمام الأمور في دمشق ولم يكن بمقدور أحد أن يتنبّاً بأنّ نصف سكان سوريا سوف ينزحون عن ديارهم، ولا أن يتنبّأ بهذه الموجات الكبرى من اللاجئين التي تحولت لمشكلاتٍ لحلفائنا الأوربيين، لم يكن في حسباننا أبداً بأنّ تنظيم القاعدة سوف ينقسم على نفسه لينتج عن ذلك صعود الشكل الأكثر فتكاً والذي سوف يستولي على المناطق الشرقية من سوريا وصولاً إلى العراق.
ما الذي أنت بصدد الدفاع عنه اليوم؟
بذل وإحياء الجهود لإطلاق مفاوضات تفضي لحكومة جديدة مع التحلّي بالصبر استراتيجياً في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
تعوّل الإدارة الأمريكية على التعاون مع الأكراد، هذه السياسة قد تعود بالفائدة على المدى القصير فيما يتعلق باستعادة بعض المناطق من التنظيم، هذا جيد بلا شك، إلاّ أنه قد يزرع بذوراً لصراعات إثنية قد تطرأ مستقبلاً بين عرب سوريا وأكرادها.
تقول رسالة الشكوى التي قدمها الدبلوماسيون بما لا يدع مجالاً للشك بأنّ التركيز على الدولة الإسلامية لن يقود إلى كسب تأييد قلوب وعقول ما يكفي من العرب السنّة في سوريا بحيث يمكننا ضمان حلّ مستدام لمشكلة هذا التنظيم والتحديات التي يضعنا أمامها. يرى المجموع العربي السنّي في سوريا بأنّ حكم الأسد مشكلة أكبر من مشكلة تنظيم الدولة الإسلامية وقد أشارت منظمات حقوق الإنسان في سوريا بأنّ عدد المدنيين الذين قتلتهم حكومة الأسد يفوق بسبع مرات عدد أولئك الذين قتلهم تنظيم داعش.
يكمن الخطر –كما في الحالة الفلسطينية- في انهيار المركز، على هذا النحو سوف ينهار المركز السوري المعتدل، تلكُم هي الرسالة التي أراد المعترضون إيصالها عبر قناة الشكاوى، تقول الرسالة ببساطة أنّه علينا أن نكسب ودّ المجتمع العربي-السنّي لهزيمة داعش.
هل تعتقد حقاً بأنّ لدى الأسد الرغبة في التفاوض لإحداث انتقال سياسيّ؟
كلّا، طالما توفّرت له إمكانية الظنّ بأن يكسب بالحلّ العسكري، حتى وإن احتاج الأمر لعشرين سنة أخرى!
منذ أحد عشر شهراً خَلَت، في شهر تموز 2015 كان الأمر مختلفاً، توجّه الأسد بكلمة إلى الشعب قال فيها بأنّ الجيش منهَك، لم يعد لدينا ما يكفي من الجنود كما فرّ الكثير منهم، لم يعد لدينا ما يكفي للدفاع عن كافة المناطق وكان علينا أن ننسحب من بعضها. كانت قوّات الأسد في هذه الأثناء تتقهقر في الشمال الغربي من سوريا وفي الجنوب كذلك الأمر، ليس أمام تنظيم الدولة الإسلامية بلْ أمام المعارضة الأكثر اعتدالاً وأمام جبهة النصرة أيضاً، حتى أن قلب المناطق العلوية]حيث تقطن الطائفة التي ينحدر منها الأسد[كان في مرمى نيران تلك القوات. حينذاك بدت المرارة واضحةً في كلام الأسد وأظهرت كلماته بأنّه يدرك جيّداً حجم خسارته على الأرض، وقتها فقط كان في حالةٍ ذهنيةٍ ربما تدفعه للقبول بتسويات.
حين بدأ التدخل الروسي بعد خمسة أسابيع من خطاب الأسد، تغيّر موقفه بمعدل مائة وثمانين درجة إذْ قال “لن نتفاوض مع الإرهابيين —وكافة المعارضة المسلحة إرهابية— سوف نستعيد كل شبر من مناطقنا، وسوف نستمر في القتال حتى تحقيق النصر الكامل”.
التحدّي الآن هو في كيفية إعادة الأسد إلى الموقف الذي كان عليه في شهر تموز/يوليو 2015، عندها يمكننا التوصل لوقف إطلاق نار من شأنه أن يصمُد.
هل تعتقد بأنّ المعارضة قادرة على الانتصار؟
السؤال الحقيقي هو: هل بإمكانهم التوحّد بالقدر الكافي لتقديم البرنامج والبديل المقنع؟ هنالك عدة مؤشّرات تدلّ على إمكانية ذلك، غير أنّ على الرّعاة الأجانب لتلك المجموعات المختلفة الاتفاق فيما بينهم على آلية موحدة للقيادة، لن يجدي نفعاً أبداً أن نزيد من دعمنا لمجموعات بعينها في الوقت الذي تقوم فيه دول ثانية بتقديم الدعم لمجموعات أخرى وبالتالي لا يحصل التنسيق المطلوب.
هل سيغيّر هذا الصراع وجه الشرق الأوسط؟
لم نصل بعد للمرحلة التي نقول فيها بأنّ تفكّك الدول هو نتيجة بعينها، إلاّ أنّنا أمام لحظةٍ مفادها بأنّه سيكون من الصعب علينا على نحوٍ متزايد رؤية دول مثل سوريا والعراق تحافظ على وحدتها، ونقطة البداية في هذا الصدد هي قيام دولة كردية مستقلّة، وهنا يجدر بالسياسة الذكية أن تفكّر بالطريقة التي يمكن من خلالها تحويل ذلك لعملية إيجابية عبر التفاوض بدلاً من الاقتتال العرقي.
نيويوركر: ترجمة ابراهيم قعدوني- السوري الجديد