القدس العربي – بكر صدقي
مع تطور التكنولوجيا ووسائلها، واحتدام الصراعات الداخلية والمؤامرات الخارجية، بات بإمكاننا كمشاهدين في حالة حجر طويلة بسبب الوباء اللعين، أن نتابع أولاً بأول فصول سجالات حامية، بين جناح مخلوف في نظام الأسد وجناح الأخرس، من جهة أولى؛ وبين الإعلام الروسي و«مثقفين» سوريين من جهة ثانية، ولا نعرف، بعد، ما إذا كان هناك ما يربط بين خطي التوتر هذا غير التزامن، أي ما إذا كان هذا التزامن بريئاً أم لا.
فعلى الخط الأول يواصل رامي مخلوف الذي يحتل في النظام منصب ابن خال بشار الأسد إصدار حلقاته اليوتيوبية وكتابة بوستاته الفيسبوكية، فيما أصدر وزير مالية بشار الأسد قراراً بالحجز الاحتياطي على ممتلكات المذكور وممتلكات زوجته وأبنائه وبناته. ليرد ابن المخلوف بنشر وثائق تثبت أن شركته لم ترفض تسديد الجعالة المطلوبة منها وأن مزاعم وزارة المالية بشأن رفض الشركة التسديد ما هي غير افتراء لا أساس له. وواصلت «الجهات المختصة»، في غضون ذلك، اعتقال موظفي شركات مخلوف وجمعياته ليبلغ عددهم الإجمالي 60 شخصاً لا ذنب لهم غير العمل في الشركة الخطأ في الزمان الخطأ. وفي تجليه اليوتيوبي الثالث على خلفية حطب المدفأة الذي لم يخسر شيئاً من تنسيقه منذ الفيديو الأول، أضاف ابن المخلوف مسحة فلسفية إلى ورعه ودروشته فأعطانا لمحة أولية عن فلسفته المانوية القائمة على قطبين: السالب والموجب، الذكر والأنثى، الأرض والسماء.. إلخ، ليطبقها على المشكلة القائمة بينه وبين جناح الأخرس من عائلة الأسد، فيحاول إقناع ذاك الذي في موقع الخصم والحكم بأن الدولة بلا قطاع خاص لا يمكنها أن تعمل، الدولة الأنثى والقطاع الذكر، الدولة السالبة والقطاع الموجب، الدولة الأرض والقطاع السماء التي تمطر الليرات..
لا شيء مدهشاً، إذن، في هذه التطورات على الخط الأول. فماذا عن الخط الثاني؟
هنا ترتفع درجة التشويق إلى حد كبير مع سجالات حامية تلت الحملة الإعلامية الروسية على النظام وعلى رأسه بالذات قبل أسابيع قليلة. وكان عضو مجلس الشعب بمرتبة بوق إعلامي خالد العبود سباقاً ومدهشاً في رد الصاع صاعين للرفاق الروس، حين كتب مطوّلته المعنونة بـ»ماذا لو« مهدداً فيها الرئيس الروسي بغضب أسد دمشق الذي من شأنه أن ينهي عهد بوتين في السياستين الروسية والعالمية. جميل أن يتحول بشار الأسد إلى فزاعة يمسك بها شخص بمواصفات خالد العبود يهدد بها رجل كرملين القوي الذي اعتاد أن يشحن الأسد إلى موسكو حيناً، وقاعدة حميميم الروسية في سوريا حيناً، ومركز عسكري روسي قرب دمشق حيناً، وأن يسومه صنوف الإذلال في كل تلك الأحيان، قبل أن يوعز لوسائل إعلامه بالانقضاض عليه بالمقالات والتقارير واستطلاعات الرأي.
السجالات بين وسائل الإعلام الروسية والأبواق الأسدية، وكذلك بين رامي مخلوف وخصومه، إضافة إلى عجز النظام عن إدارة الأمور، تشكل معاً لوحة يطغى عليها العفن كنهاية منطقية لنظام عفن احتل الحكم في سوريا طوال نصف قرن
كانت مقالة خالد العبود المشار إليها كحصاة ملقاة في بحيرة راكدة، جاءت بردات فعل متباينة من أبواق النظام، فمنهم من انتقد العبود على تجرئه على الحليف الروسي خشية أن تفهم «القيادة الروسية» كلام العبود على أنه رسالة من النظام أو رأسه، وهو ما لا قبل له بتحمل عواقبه. فماذا لو «صغّر» بوتين عقله ورد على العبود بما يناسب موقعه القوي في العلاقة مع النظام التابع المتهافت؟ فالنظام لا يملك ترف توتير العلاقات مع روسيا وبخاصة «في هذا الوقت المصيري» (على فكرة: كل الأوقات كانت مصيرية لدى النظام السوري من 1970 إلى اليوم).. ومنهم من دافع عن خالد بحجة «تاريخه الناصع» في الولاء على رغم زلته الطفيفة. غير أن ردة الفعل الأهم هي في أن مقالة العبود، وامتناع الروس عن الرد عليها، قد شجعا بهجت سليمان على جمع مئات التوقيعات من سوريا وتونس ولبنان وفلسطين وغيرها من الأماكن على رسالة مفتوحة وجهوها إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي طالما زاوج في عمله الدبلوماسي بين وزارة الخارجية الروسية ونظيرتها السورية، ودافع عن النظام في المحافل الدولية والمؤتمرات الصحافية ومارس تكذيب الحقائق المثبتة وإثبات الأكاذيب المختلقة دفاعاً عن النظام وعن سياسة بلده في سوريا. الرسالة المفتوحة أو البيان تحفة تستحق المشاهدة، سواء بمضمونها أو بالقائمين على إصدارها والموقعين عليها أو بسياق صدورها.
يشكو الموقعون على البيان، وبينهم عدد لافت من التونسيين وهو ما يستحق التنويه، من وسائل الإعلام الروسية التي أطلقت العنان لنفسها في النيل من الرئيس الأسد والإساءة إليه، وهو أمر غير مقبول في رأي البيان. صحيح أن الموقعين عليه يؤمنون بحرية التعبير في وسائل الإعلام (!) لكن الإساءة المباشرة إلى الأسد لا تستقيم مع علاقات الصداقة والتحالف الروسية السورية. ومن هذا المنطلق فهم يدعون لافروف والقيادة الروسية إلى الإيعاز بوقف تلك الحملة الظالمة. لا سيما وأن الإعلام الروسي لا يتحامل على رؤساء عرب آخرين بنفس الطريقة التي تحامل بها على الأسد!
يا له من منطق بسيط: عاملوا بشار «أسوةً» بزملائه العرب الآخرين، فإما أن تسيئوا إليهم جميعاً فتضيع الطاسة، أو تتوقفوا عن الإساءة إليه، «فهذا حرام، هذا ظلم، هذا لا يجوز» إذا أردنا الاستعانة بقاموس رامي مخلوف وأسلوبه المهادن اللطيف.
بعيداً عن أي تحليلات أو تخمينات بشأن نهاية النظام الوشيكة، بانفجار تناقضاته الداخلية أو بقرار من فلاديمير بوتين، كما يذهب كثير من التحليلات المنشورة، فالسجالات المذكورة أعلاه بين وسائل الإعلام الروسية والأبواق الأسدية، وكذلك بين رامي مخلوف وخصومه، إضافة إلى عجز النظام عن إدارة الأمور، تشكل معاً لوحة يطغى عليها العفن كنهاية منطقية لنظام عفن احتل الحكم في سوريا طوال نصف قرن.