“لما جبت البنت التالتة حزنت وتمنيت لو أنه صبي حتى يصير رفيق لابني البكر عصام.. وخوفي من المقولة الشهيرة هم البنات للممات”.
أم عصام تعيش مع بناتها الثلاثة في مخيمات الشمال على الحدود مع تركيا، بعد أن توفي زوجها إثر نوبة قلبية، وهاجر ابنها إلى تركيا طلباً للعمل وإعالة أمه وأخواته.
إلا أن عصام الآن وبعد ثلاث سنوات من مجيئه إلى تركيا، لم يرسل لأمه وأخواته مايغنيهم عن السؤال ويغطي احتياجاتهم الأساسية.
خيمة مهترئة لم ترمم منذ دخولهم عليها قبل أربعة أعوام، فعمل الأم في خياطة وتصليح الألبسة على مكنةً يدوية، يكاد يؤمن لهنّ رغيف الخبز وبعض حبيبات البطاطا والطماطم.
آية ورغد وختام، بنات أم عصام كبيرتهنّ في الرابعة عشر من عمرها، وأصغرهن ختام بنت السبعة أعوام، تصرّ أمهنً على إرسالهنّ للمدرسة، ليكملن تعليمهنّ لعلهنّ يحصلن على شهادةٍ تكون لهنّ سلاحاً لزمنٍ ساد فيه سلاح القتل وتدمير الإنسان.
حلّ الشتاء واشتدّ البرد، والخيمة باردة كقبوٍ رطبٍ مهجور، لايسمع فيها سوى صوت أعمدة الخيمة المتضعضعة الآيلة للسقوط.
“ياربي دخيلك.. كيف بدنا نقضي هالشتوية.. برد وماعنا حطبة نحطها بالصوبيا.. وهالخيمة اللي رح تطير من أول عاصفة.. شو اعمل ياربي.. الله يسامحك ياعصام وين رحت ونسيتنا”
تسمع آية أمها تتمتم بتلك الكلمات المؤلمة وهي تمشط شعرها الأسود اللامع المنسدل على كتفيها كشلالٍ هائجٍ يعكس أشعة الشمس في يوم ربيعي جميل.. تسأل نفسها حائرة.. ماعساي أفعل.. كيف أنزع كل هذا الحزن والألم والهم عن صدر أمي؟
لم تستطع آية النوم ليلتها وهي تفكر بحلٍّ إسعافيٍّ يقلل من أهوال الشتاء عليهنّ، يقطع شرودها صوت أختها رغد لتسألها عن سبب عدم قدرتها على النوم.. يدور بينهما حديث لم ينتهِ حتى بزوغ الفجر.. لتستيقظا بعدها وتذهبان إلى المدرسة مع أختيهما.
بعد الظهر تعود ختام بمفردها إلى المنزل، أين آية ورغد، تسألها أمها.. لتجيب بأنهما ذهبتا لإيصال صديقتهما المريضة إلى البيت.. هذا ما أوصاني أن أبلغك إياه.
بعد قليل وصلت الفتاتان إلى خيمتهما.. تحملان مبلغا من المال يكفي شراء بعض الحطب وإصلاح الخيمة.. من أين لكما بالمال.. تساءلت الأم باستغراب.
لترد عليها آية بأنه وفي طريق عودتهما من بيت صديقتهما أوقفهما جارهما بالمخيم وأعطاهما المال، وقال هذا من أخيكما عصام أرسله لكنّ من تركيا.
فرحت الأم فرحاً شديداً ودعت لعصام ودموع الفرح تغمر خديها.. فابنها لم ينسَ أمه وأخواته كما كانت تظن..
مرت أيام.. لتلاحظ الأم أن بنتيها آية ورغد تضعان حجابهما حتى أثناء النوم.. سألتهما باستغرابٍ عن السبب.. أجابتها آية بأنهما تشعران بالبرد..
لم تقتنع أم عصام بحجتهما لترد .. “بنتي حاطين شي لشعركم ومابدكم أعرف.. بعرف الصبايا بهالعمر بحبو يجربو أشكال ألوان.. قولو الحقيقة مابزعل منكم”
نفت الفتاتان ماقالت أمهما.. أصرت الأم على خلع حجاب بنتيها لترى ماصعقها.. “وين رحتو بشعركم ليش هيك قاصين شعركم متل الصبيان.. قولو الحقيقة قبل ما انجلط”
لم تستطع آية ورغد إخفاء الحقيقة أكثر من ذلك، فاعترفتا أنهما باعتا شعرهما عند أم صديقتهما التي تتعامل مع شركة تعمل في تصنيع “الشعر المستعار” وقد باعت كثير من الفتيات شعرهن لها..
“يعني المصاري اللي عطيتوني ياهن ما بعتهم عصام.. وانتو ضحيتو بشعركم مشان مانمد إيدنا للغريب..” وأجهشت الأم بالبكاء..
“كان هدفنا أنه ماتضلي صافنة وزعلانة من عصام لانه ماعم يسأل علينا.. وآكلة هم الشتا والبرد.. والشعر بضاعة مخلوفة.. كم سنة وبيتعوض.. أصلاً هيك أهون وأوفر للاستحمام”
رددت الفتاتان تلك الكلمات وهما تصطنعان الضحك لتختلط أصوات الضحك مع دموع الحزن والألم.. فهل مازال هناك من يتذمر أو يعترض إذا بُشر أحدهم بالأنثى؟!!!!
قصة خبرية/ إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع