ينظرُ أبو عمر إلى رغيف الخبز وعلامات الحيرة والحسرة واضحة عليه ” رغيف خبز التنور في منزلنا الريفي كان يشبعنا حباً ومؤونة”، فحياته الجديدة قهرٌ واشتياق، فبعد هجرته من منزله المحبوب، بات مسكنه خيمةً صغيرة لا تقيهم حراً أو زمهريراً، ولا تكفي لبناء التنور، فيشرد في الأفق البعيد ويقول ” نزحنا من ريف حماة باتجاه مخيمات اللجوء، كان خروجي من منزلي أصعب من دخول القبر، فبعد خمسين سنة أمضيتها في منزل خرجت بهذه الطريقة مكرهاً”.
يخاطب أبو عمر زوجته ويذكرها بالأيام الخالية ” خمسون عاماً أمضيناها سوياً في منزلنا وجميع لحظات العمرِ تمر في مخيلتي يومياً، هل تذكرين عندما كنا نطحن الطحين على الرحى وتجتمع نساء القرية جميعاً للمساعدة؟ وعندما تجتمعنَ أيضاً على التنور ويلتم شبابُ القريةِ ليأكلوا الخبز الطازج”، ضحكاتُ الحنين ترسمها ملامح هذين الزوجين، يجلسان يومياً صحبة أولادهم والأحفاد، يسردان قصصاً أكل عليها الزمان وشرب، لكنها حاضرةً في أذهان الجدين.
هل ترانا نعود إلى قريتنا ومنزلنا يا أم عمر؟ لا أريدُ أن أموتَ وأدفنَ بعيداً عن منزلي وكرم الزيتون
_ بعد عمرٍ مديد لا تهذي بهذه الأشياء، سنعودُ بإذن الله ونعمِّر الغرفة التي سقطت ونجدد غرفة استقبال الضيوف، لتعودَ كما كنت تجمع الأصحاب وتصنع “القهوة العربية” على منقل الفحم النحاسي” .
يبكي أبو عمر بحرقة، يخرج شوقه بدموع عينيه المحمرتين، “هيهات هيهات، هل يا ترى يعود المهجر قسراً عن منزله؟ كفانا عبرةً إخواننا المهجرين من فلسطين، خمسون عاماً أو يزيد، وهم يحلمون بالعودة والرجوع إلى وطنهم”، يكمل أبو عمر دموع الشوق اليومية، فالدموع غدت شيئاً معتاداً في جميع اللحظات، تخفف عنه الزوجة قليلاً لكن بدون جدوى، فالأرض أغلى من أن تنسى وكما يقول لها دائماً : ” الأرض كالعرض” .
تستيقظ أم عمر لتجده مازال نائماً ولم يستيقظ ليصلي التهجد قبل صلاة الفجر كعادته، “قم هيا لنصلي ركعتين على نية الفرج، اقترب وقت الفجر، هيا يا أبو عمر وحد الله وقم”، لكن أبو عمر فارق الحياة ولم يتحقق حلمه بأن يدفن في أرضه ولم يودع منزله المحبوب.
تبكيه أم عمر وجميع من يعرفه بحرقةٍ وألم ” لماذا ذهبت قبل أن نرجع للمنزل والأرض؟ وكيف لم تنتظرني أن أخبز لك على التنور كما تحب! يا ليتني أنا من ذهب وبقيت أنت”، كانت هموم أبو عمر وحنينه أقوى من عزيمته وصبره، فقلبه المتعب لم يحتمل كثيراً وتفكيره الكبير أعظم من أن يتحمله قلب.
بقلم : ريم مصطفى