في بلدتها بريف حمص <<القريتين>> تقف أمام نافذتها تحدّق بنظرةٍ ثابتة، تنهمر الأمطار بغزارة تضرب زجاج النافذة كحبات الحصى، رياح عاتية تتسرب من شقوق الجدران المتهالكة، كلها توحدت لتشكل أجواء طقس جنائزي مخيف بداخلها.
ظهيرة يوم السبت عام 2012 يقبض الخوف على فؤاد بدور الشابة العشرينية، ذات العيون البينة برموشٍ سوداء كثيفة، ووجنتين كحبتي فراولة، ويتملكها قلق لاتدري سببه، لتتصل دون تردد بخطيبها صافي، لتطمئن عليه أثناء عمله كسائق لإحدى مركبات نقل الركاب على خط حلب “”كيفك وشو وضع الطريق، في قصف”.فيرد صافي “اهلا ياحلوتي في شوية قصف بس الامور منيحة”، ولطالما أجرت بدور مثل هذه المكالمات خلال سفر خطيبها خصوصاً في ظل ظروف الحرب، وحوادث السير على الطرقات.
بثغرٍ باسمٍ وعباءةٍ فضيةٍ مزركشة تنتظر بدور زيارة صافي، بدأ تأخّر صافي عن الموعد يبثّ القلق والخوف في قلب بدور خصوصاً أن هاتفه مغلق.
سمعت بدور خطوات تقترب منها وإذ بأبيها مُحاولاً إبعاد نظراته الحائرة عنها، مُخفياً دموعه الهاربة على خديه، بصعوبة بالغة تقف بدور وكأنها مكبلة بأصفاد حديدية، بدأت تشعر ببرودة تغزو أطرافها محدِّثة إياه “شوفي أبي شو صاير ليش عم تبكي”. ليجيبها بصوت مخنوق أن صافي ابن أخيه”خطيبها” قد أصيب بحادث سير وحالته حرجة.
يعمّ المكان هدوء لايُسمع منه سوى أزيز بعض الحشرات وحفيف أوراق الشجر في حديقة المنزل، وصوت داخلي يقول لها بأن صافي قد مات، صرخت بدور بصوت عالي يكاد يقطع حبالها الصوتية لقوته وحدته” مات صافي أبي جاوبني ليش عم تخبي عني”. أرهفت السمع بدور لتسمع أي شيء من أبيها يحيي بداخلها الأمل لكن لا إجابة.
خبر وفاة صافي الشاب الثلاثيني مزق قلب بدور ، رمشت بعينيها عدة مرات عاجزة عن الرؤية والتصديق، غصة مريرة تحملها أنفاسها تضغط على صدرها وكأن ظلام النهاية يزحف إليها.
عند قبر صافي جلست بدور حاملة باقة ورد الياسمين، تتذكر اللحظات التي جمعتها معه وذكريات لن تعود، لتلملم شتات روحها وترحل.
ما أشد مرارة شعور الفقد عندما تجد فجأةً قلباً خاوياً من أحلامه كان قد نسجها من خيال وردي، أن تجد أزهار المحبة ذابلة، وعوضاً عن الطيور المغردة تسمع أصوات أشباح مخيفة.
هناك حيث ودّ حبٍّ دفين تفوح منه رائحة الماضي ليصنع حافزاً لاستمرارية الحياة وتحقيق الطموح.
داخل روضتها الصغيرة تعلّم بدور الأطفال مبادئ القراءة والكتابة وتلعب معهم وتدربهم بعد أن أتمت دراستها الجامعية في كلية التربية عسى أن المستقبل الآتي أجمل …
خيرية حلاق
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع