وضعت يديها على خديها، وأخذت تحصر نفسها في زاوية المقعد، وتارة أخرى تغمض عينيها علّه كابوس وينتهي، لكن ما من مفر، فضربات قلبها طاحت الحد الطبيعي، وأخذت تطرق بشدة ربما خوفأ أو ربما خجلا، أو لعلها اشتياقا.
إنها “ماسة” ابنة العاشرة، لم تكن تعلم أن فقدان الأب سيجبرها على خوض حرب لانهاية لها، ولم تدري أنه سيبقى حاضرا معها بكل لحظة من حياتها، ورغم محاولاتها الفاشلة بشغل وقتها كي لايتملك اليأس قلبها، إلا أن المحيط بها يقوم بالمهمة عنها، فقد قامت معلمة الصف بسؤال كل تلميذ من صفها عن مهنة الوالد لتدونها في سجلاتهم الدراسية، فاعتصر قلبها ألما، وزادت لوعتها عندما أجابت زميلاتها بفخر عن مهن آبائهن، وهي تحاول الاختباء كي لايصلها الدور، ولاتدري ما الإجابة.
وقفت حائرة عندما وصل دورها، وقفت صامتة والمعلمة تنتظر الإجابة، بدت وكأنها أصيبت بصدمة، شفتاها مالتا للون الأزرق وعيناها عجزتا عن البكاء، ثم أسعفها قلبها القوي لتتحدى ضعفها وتجيب بكل إرادة واعتزاز “بابا شهيد”، ثم انهالت بالبكاء بعد ذلك.
كم كان شعور المعلمة مخجل، احتضنتها بقوة، وقالت لها :” لاتحزني ياصغيرتي، فوالدك شهيد جميل في الجنة، إنه يراكي، ويتمنى أن يمسح دموعك”.
خلفت الحرب في سوريا آلاف اليتامى، والثكالى، والإعاقات، وغيرها الكثير، فعندما كنا صغارا، تعلمنا في المدرسة أن كلمة شهيد لها معنى عظيم، ولاتطلق على أي إنسان، فالشهيد في الحرب هو من يقتل في ساحات المعارك ليدافع عن أرضه وعرضه، لكننا لم نتعلم أن من يقتل برصاص قناص هو شهيد، ومن يقتل بتفجير هو شهيد، ومن يقتل بغارة طائرة حاقدة أيضا شهيد، ربما حينها لم يكن المجرم قد كشر عن أنيابه وأظهر فنونه في القتال.
مسحت “ماسة” دموعها وقالت والغصة أخذت حيزا من نبرة صوتها:” من يعيد لي أبي؟، من يعيد لي بسمتي، وفرحتي، من يشعرني بالحنان والأمان، لن أنسى آخر اللحظات برفقته، خرج من البيت ليحضر لنا الخبز، ووعدني أنه سيعود ويتحدى الطيران، لكنه لم يعد، وأبي لايكذب أبدا”.
المركز الصحفي السوري_ سماح الخالد