يلتفت كتائه يبحث عمّن يرشده إلى الطريق الصحيح في عتمة ظلام حالك أعمى بصره وبصيرته بعد سنين طويلة من العمل كشمعة تضيء دروب الآخرين.
“أبو محمّد” معلّم سوريّ جارت عليه سنين الحياة واشتدّ عليه شقاؤها ليتحوّل من معلّم أمضى عشرات السنين من عمره في التعليم إلى صانع في مصنع للأبواب الخشبية لا يعرف العمل على أيّ من آلته الحديثة منها والقديمة.
رأيت أبا محمّد يلتفت يمنة ويسرة وكأنّه يبحث عمّن يرشده إلى بصيص أمل في مستقبل أصبح حالكاً كظلام الليل الدامس، وخاصّة بعد صدور القوائم الأخيرة لانتقاء المعلمين والتي لم يجد اسمه فيها كغيره من آلاف المعلمين السوريين الذي أبعدوا عن أحبّ الأعمال إلى قلوبهم ظلماً وقسراً.
اقتربت منه وأنا أعلم الناس بمشاعره لأنني أعيشها بحذافيرها، إلاّ أنّ الفرق بيني وبينه ربما عشر سنوات أو أكثر قد سبقني فيها معلّماً يحترمه الجميع بأدائه وإتمامه العمل على أكمل وجه.
“أبا محمّد !!!!
مابك تلتفت وكأنّك ضللت الطريق !!؟
فأجابني بعد تنهيدة أحسستها ستحرق كلّ ألواح الخشب الموجودة في المصنع وقال بصوت تخنقه غصة القهر والعذاب: “أولم نضلّ الطّريق يا صديقي !!!!”
ثمّ اقترب مني وانتزع قفازات العمل من يده اليمنى وأشار بإصبعه إلى وجهه وأكمل: “أليس في وجهي تجاعيد تفوق سنين هذا المصنع البائس الذي انتهيت إليه بعد أكثر من 25 عاماً في المدارس وأمام الطلاب!!!”
لم أجد أيّ إجابة لأسئلته التي تدور في رأسي أيضاً منذ صدور تلك القوائم اللعينة التي ظلمت قرابة 9 آلاف شخص، أو 9 آلاف عائلة بات معيلوها بلا عمل أو صناع في مصانع كالذي أعمل فيه مع أبي محمد.
رنّ جرص الاستراحة في الوقت المخصص لشرب الشاي بمدّة 20 دقيق تبدأ عند الساعة التاسعة و 40 دقيقة وتنتهي في العاشرة تماماً.
ملأت كأسين من الشاي الثقيل والحلو لي ولصديقي الجديد الذي يشاطرني الهموم والصدمات.
أخذ أبو محمد كأس الشاي وارتشف منها رشفة لم تكد تصل إلى جوفه حتى عاد بالذاكرة إلى أيّام المدرسة وشايها الذي كان كثيراً ما يشربه بلا سكّر لنفاذ السكر وحرصاً منه على عدم إزعاج الزملاء عندما يكون السكر على وشك النفاذ.
نظر أبو محمّد إليّ وهزّ برأسه ثمّ حمد الله على ما هو فيه من صحّة وعافية وقال “لم أكن أتوقع أن يكون اسمي خارج القوائم فأنا أحقق الشروط المطلوبة بإجازة جامعية وشهادة لغة تركية في المستوى الثالث، فلماذا ظلمونا بهذه الطريقة البشعة!!!!!”.
ثمّ نظر في كأس الشاي وكأنّه يبحث عن إجابات لأسئلته في قعرها وتمتم قائلاً كأنّه يحدّث نفسه: “لو أنّهم أقاموا امتحاناً أو مقابلة للقبول، لما كان حالي بهذا الحال، ولكن قدّر الله وما شاء فعل”
تأوّه أبو محمد وهو يتحدّث عن سنين العمل الطويلة التي أمضاها بشكل طوعي وبلا أيّ أجر تقاضاه عمّا بذله في تعليم الطلاب شاعراً بالخيبة والندم حيناً والرضى عن نفسه وقضاء الله وقدره أحياناً.
يبقى حال أبا محمّد كحال آلاف المعلمين السوريين الذين انتهى بهم المطاف في المعامل والمصانع عمالاً يعملون برواتب قليلة لا تكاد تغني عنهم ما يترتب عليهم من إيجار بيت وفواتير، ويبقى السؤال الذي يدور في رؤوس الجميع “لماذا يكون ردّ الجميل قاسياً إلى هذا الحد!!”
يذكر أنّ التربية التركية كانت قد أنهت عقود 12 ألف معلم سوري منذ مطلع تموز/يوليو الفائت، دون قرار رسمي بذلك، لتصدر بعهدها قائمة تضمّ 2497 معلماً فقط في حين أصبح أكثر من 9 آلاف عاطلون عن العمل.
بقلم: محمد المعري
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع