“الحراقات جايفة .. والمدرسة كويسة”. بابتسامة خجلة تختبئ خلفها بارقة أمل بغد أفضل، يقول “باسل” تلك الكلمات، وهو ينظر إلى اللوحات الطفولية التي تزين صفَّه الجديد، ولسان حاله يقول: سبحان من انتشلني من حراقات الفيول والمازوت وظلامها الدّامس إلى مقاعد الدراسة والعلم ونوره الوضّاء.
ظلام دامس يلف المكان داخل الحرّاقات.. لاتكاد ترى فيها إصبعك .. يدخل الأطفال إلى جوفها ليلتقطوا بقايا الفيول المتفحم .. ليذهبوا بها إلى عائلاتهم عسى أن تقيهم شيئا من برد الحياة القارس ..
يعانون داخلها سوادين . سواد العتمة في ظل غياب أشعة الشمس التي لاتجد لها منفذا عبرها .. وسواد الفحم الذي يغطي سائر جسدهم، ووجوههم التي كادت ملامح الطفولة أن تغادرها، فلا تلمح منهم إلا بريق عينيهم الذي مازال يشع رغم كل الألم والمرار الذي تجرعوه.
أطفال لاتتجاوز أعمارهم العاشرة من العمر .. حرموا من أبسط حقوقهم بعد تهجيرهم من مدنهم وقراهم .. أجبرتهم نار الحرب على احتمال نار الحراقات التي التهمت بعضا منهم فبعضهم احترق بلهيبها، وبعضهم فارق الحياة . وبعضهم الآخر أججت في جوفه لهيبا لا يطفئه إلا الخلاص من هذا الواقع المؤلم، الذي فُرض عليهم وهم لا يزالون كَزُغْبِ القَطا ..
يمسك كيس الفحم الثقيل كثقل تلك الحياة عليه .. يحاول مرة ومرتين رفعه .. وينجح في الثالثة في عَتْلِه على كتفه النحيل .. أي قوة تلك التي تمتع بها الطفل “باسل” في ظل هذا الفقر المدقع الذي يعيشه . أي قوة تلك التي جعلته يستطيع رفع هذا الحمل الثقيل بدلا من أن يحمل حقيبته المدرسية بما فيها من أقلام ودفاتر وأدوات تلوين، بدلا من ذاك الكيس المقيت المليء بالحجارة المتفحمة وأكياس النايلون التي جمعها ليذهب بها إلى أهله فيضعوها في المدفأة، وهو طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره؟
باسل، ذاك الطفل ذو الشّعر الكثيف الأشعث الأغبر، يرتدي سترة خبّأت تحتها حلمَ طفولةٍ مُندَثِر، يفرك بأصابعه الصغيرة التي تلوّنت بسواد الفحم والمازوت طرفَ بنطاله الرّث الممزّق، وينظر بعينين غائرتين حائرتين قائلا:
“كل نهار أجي ألم فحم للصوبة.. أظل ألم لمن أعبّي شوال وأروح عالبيت..ويحطونها أهلي بالصوبة”
يدخل باسل إلى جوف الحرّاقات نهارا، يمضي ساعات طويلة فيها وهو يجمع بيديه الصغيرتين اللتين كبرتا قبل أوانهما الفحمَ الملتصق بالحجارة، ليحمله بعد ذلك على ظهره مسافة 2 كيلو متر.
بعض الأطفال لايسعفه الحظ بالعمل فيها نهارا كباسل، فيضطرون للعمل ليلا .. ولك أن تتخيل تلك المعاناة التي يعيشها أولئك الأطفال الذي تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ليفزعوا ليلا إلى جوف تلك الحراقات على أمل أن يحظوا ببقايا فحم، يقتاتون بثمنه الزهيد أو يتدفؤون به في ليالي الشتاء الباردة الطويلة.
الحرّاقات: مصافي نفطٍ بدائية لتكرير النفط الخام الذي يُستَوْرَد من مناطق استيلاء ميليشيا “قسد”، تُحَوِّل النفط الخام إلى ديزل وبنزين وغاز.
انتشرت في الشمال السوري بسبب الحاجة المُلِحّة للحصول على مشتقّات النّفط، يُحْرَقُ فيها البترول بدرجة حرارة عالية قد تصل إلى 400 درجة مئويّة.
وهي عبارة عن خزّانات أسطوانية الشكل، مرتكزة على قاعدة إسمنتية، محفور تحتها حفرة، لها فتحة دائرية صغيرة فوق سطح الأرض، منها يدخل الأطفال إلى داخل الحراقات بعد أن تبرد، ليلتقطوا بقايا الفيول المتفحّم بعد ساعات طويلة من العمل الشاق في مكان لايرَوا فيه النور. فضلا عن أن كثيرا منهم تعرّض للحرق وبعضهم فارق الحياة.
تعمل الحراقات على مدار الساعة، يتصاعد منها دخان كثيف يمنع رؤية أي شيء من خلاله، وكثيرا ما تحصل حرائق بسبب بدائية العمل فيها؛ فتلتهم كميات كبيرة من النفط.
وعلى بعد مئات الأمتار فقط من هذه الحراقات السّامّة يسكن آلاف المدنيين الذين هجّرهم النّظام وميليشياته الطّائفية قسرا من مناطقهم وبيوتهم، لينتهي بهم المطاف قرب هذه الحرّاقات التي يتصاعد منها دخان كثيف سامٌّ يلفّ المكان، ويحجب عن أعينهم الرؤية ولسان حالهم يقول: أما يكفينا نحن وأطفالنا كيماوي بشار وبراميله المتفجّرة؟
وهل كتب علينا استنشاق الأبخرة السامة أينما حَلَلْنا.
رُحماك ربّنا.. فأنت الربُّ الرّحيم الكريم.
بلحظة قد يتغيّر القدر، ويرسل الله تعالى مَن يرسم على تلك الشفاه البائسة بسمة تغيّر مجرى الحياة، كما حصل مع باسل الذي انتُشل من جوف الحرّاقات إلى مقاعد الدراسة، بعد طفولة معذّبة تحكي ألف حكاية وحكاية مما تجرّعه، ولكن مايزال أترابه يتجرّعون الألم ذاته ويحتاجون من يعيد لحياتهم ألوانها.
فهنيئا لمن يستطيع رسم البسمة على ثغر تلك الطفولة المعذبة ..
هنيئا لمن يصنع إنسانا..
قصة خبرية/ ظلال عبود
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع