تُخبرني جارتهم نرجس (27 عاماً) عن المكان الذي بنى فيه أحمد خيمته الأولى فتقول: “قعدت العيلة كلها براس جبل لما نزحوا، أرض مقطوعة تقريباً.. خطرة كتير وما بيوصلها شي”.
نزحَ أحمد “اسمٌ مستعار” (سهل الغاب، 38 عاماً) وعائلتهِ المكونة من 7 أطفال أصغرهم طفلة بعمرِ العامين وأكبرهم صبيّ بعمر الرابعة عشر إلى إدلب في عام 2019، استقبله ابن عمّه في أحد الأراضي البوار التي أصبحت فيما بعد مُخيّم “باب سقا” للنازحين، والذي لا يقيهم برد الشتاءِ ولا حرّ الصيف.
في عام 2019 حُرمً آلاف المزارعين بِسهل الغاب في ريف حماة من جني محصولاتهم الصيفيّة بسبب القصف الذي نفذه النظام على المنطقة، مما أجبر الكثير من الأهالي على النزوح للنجاة بأطفالهم وذويهم من غدرِ صواريخ النظام.
مكثوا قرابة العام في هذا المكان، ولكن الفقر وعدم صلاح الأرض للزراعة أرغمتهم على البحثِ عن مكانٍ أكثر خصوبة لِيُطعمُوا أفواه الصبية الصِغار..
يأتي سُهيل (ابن عم أحمد) لِيُخبره عن موسم قِطاف الزيتون في عفرين.
“أحمد تجي نطلع ع القطاف؟ بلّش الموسم بعفرين” وتشتهر عفرين بزراعة الزيتون، كسهلِ الغاب في خصوبتها، والعمل بالزراعة هو الأمر الذي يُجيده أحمد وزوجته..
يُجيبُ أحمد مُستأنساً بالفكرة: “أيه أكيد بنروح نشتغل”
ويأتي العرض كحبلِ نجاةٍ لينقذه وعائلته من الفقر الذي بدأ يقتحمُ باب خيمته البائسة أعلى الجبل بعد أن أنفق مافي جيبه خلال العامِ المنصرمِ من نزوحه.
يذهبُ أحمد برفقةِ ابن عمّه وعائلتهما للعمل عند أحدِ المزارعين في عفرين قرابة الشهرين ومن ثُمّ يحصلُ النزاع بين بعض فصيلين من المعارضة، لتبدأ رحلة النزوح الثالثة إلى إدلب مرّة أخرى..
وهذا النزوح كسابقهِ، يتركُ أحمد ومن معه جميع ما يملكون ليحظوا بالنجاة مع أطفالهم من الرصاص المتناثرِ حولهم، ويعودُ أدراجه بائساً.. يمكثُ بالقرب من مخيم “دير حسان”
يتبرّع له رجلٌ طيّب بغرفةٍ يملكها حينما يرى حاله والصبية برفقته، ولكن بعد أشهر وبسبب الظروف الماديّة يُخيّرُ صاحب الغرفة أحمد إمّا بشرائها بمبلغ ألف وخمسمئة دولار، أو أن يتأجّرها ب 100 دولار شهريّاَ.
تخبرني نرجس؛ كنت صائمة وأختي في أحد أيّام شتاء 2020، وعند الإفطار جلسنا نشتكي من عدم لذّة الطعام.. فما وجدنا إلا صوت أمّي الحنون يرددُ كلماتٍ بنبرةٍ شديدة وحادّة: “ما تحمدوا ربنا ع النعمة يلي بين إيديكم”
تُعقّبُ نرجس: تبادلتُ النظرات مع أختي مندهشةً، ما السبب لهذا الكلام، ولم أتدارك الكلماتُ بعد لِأُعبّر عن استغرابي، فأتانا صوتُ أمّي مُفسّراً..
“إنتو شفتو بيت أحمد كيف عايشين؟ سبع ولاد بغرفة وحدة، بيناموا كلهم ع طرّاحتين، وأبوهم هلق بيشتغل بالبناء، إزا صرله شغل اكلو ولاده، ما صرله ضلّوا جوعانين، وفوق هيك صاحب الغرفة بدّه يطالعهم”.
تُكملُ نرجس: بعد أيّام زرتهم مع والدتي، فكان الحال أشدُّ مما سمعنا، مدفأة لا يملكون ما يُشعلونها بهِ، تجلبُ برد الشتاءِ بدلاً من الدفء، جدران الغُرفة عبارة عن لًبِناتٌ مُتلاصقة، فُتحةٌ في الجدارِ على شكل نافذة مفتوحة دائماً، ومُغطاةٌ برداءةٍ سوداء لتزيد من شدّةِ البرد القارص، غازٌ أزرق في الزاوية، بيد أنّه يتيمٌ كالمدفأة لم يوقد مذ أيّام.
تقول نرجس: حينما سألتُ زوجة أحمد: “إنتو كيف بتدبروا أموركم لما زوجك ما بيشتغل؟”
لم تُجبني بوقتها، لأعلم فيما بعد أنّ أكبر أبنائها “ذو الرابعة عشر” يعملُ بجمع “النايلون” من مكبّ النفايات ويقوم ببيعه ليُساعد في تأمينِ قوتِ إخوتهِ الصّغار، وتعيش العائلة التي كانت تهنأ بالعيش في سهلِ الغاب على أمل أن تتكفّلهم منظمة أو جهة ما.
تُضيفُ نرجس مُستاءةً: “هنن من المية دولار يلي بده ياهم صاحب الغرفة يمكن معهم ليرتين ونص”، يسمعُ مدير مخيّم “دير حسان” بحالتهم، يمنحهم أرضاً ليبنوا خيمتهم بها، يأتي الجيران ببعضِ الطعام، وما وجدوه عندهم من الأغطية ليتقاسموها فيما بينهم.. يشعرُ الفقيرُ بالفقيرِ، وعندما يُقارنُ حاله بحالِ جاره فيجدُ لديهِ غطاء زائد يرى بذلك غِنىً يؤهلهُ ليتبرّع بهِ.
أخيراً: يفوزُ أحمد وعائلته بشرف الانتقال من محيطِ المخيّم إلى داخلهِ، بعد أن كان يحظى برغدِ العيش، مُكرّماً في أرضه بسهلِ الغاب.
بقلم : مريم الرحمون
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع