بين الشد والجذب، ما زالت معظم الجبهات محكومةً بـ«سيف التوازنات». لكنّ الأيام القادمة تُنبئ بتصعيد على مختلف الصعد. الصيف السوري مرشّح ليكون الأشدّ استعاراً على الإطلاق، قبل دخول الحرب مرحلة جديدة تطمح التفاهمات الروسية ــ الأميركية إلى تدشينها قبل إخلاء الإدارة الأميركية الحالية مواقعَها
مقدمات الصيف السوري اللاهب تسارعت وتيرتُها خلال الأيام الفائتة. التشابك بين الميدان وتفاصيل المسار السياسي (سواء ما يدور فوق الطاولات أو تحتها) صار أكثر تعقيداً وأشدّ وضوحاً.
وإذا كانت الضغوطات الميدانية المتتالية التي ترزح تحتها المجموعات المسلحة في الغوطة قد تُوّجت بأخرى سياسية أفضت إلى إقصاء «جيش الإسلام» عن تزعّم المشهد في «جنيف» كما في غوطة دمشق، فإنّ الأنظار مسلّطة في المرحلة القادمة نحو حلب وما يُمكن أن «يُثمره» التصعيد المرتقب فيها. ورغم أن المعارك المفتوحة على معظم الجبهات قد التزمت حتى الآن «سقفاً» محكوماً بتوافق روسي ــ أميركي (غير معلن) على «توازنات» معيّنة، لكنّ المعلومات المتوافرة تؤشّر على تحوّل وشيك في صيغة المعارك إلى ما يُشبه «التصعيد بقصد الابتزاز». ضمن هذا الإطار يُمكن تفسير الدعم الأميركي المتزايد لتحرّكات «قوات سوريا الديمقراطية» وعمودها الأساس قوّات YPG الكرديّة بما يُشبه التلويح بـ«عصا الأكراد» في وجه «الحليف التركي».
وجليٌّ أنّ أي تقدّم فعلي يحقّقه الأكراد على الأرض، سواء في الرقة أو حلب، لا يمكن حصوله من دون غطاء سياسي وجوّي أميركي في الدرجة الأولى، وهو تقدّم لا تمتلك أنقرة سوى النظر إليه بعين القلق. من هذه الزاوية يكتسب الضخ الإعلامي المتزايد في ما يتعلّق بمعارك «قسد» ضدّ «داعش» في ريفي الرقة وحلب أهمية خاصة.
ورغم أن بعض الآراء تصب في خانة التشكيك في طبيعة المعارك التي تخوضها «قسد» ضد «داعش» وتذهب نحو اعتبارها «معارك شكلية»، لكنّ المؤكد أن تاريخ المواجهات بين الطرفين حافل، وأن «داعش» يولي المواجهات مع الأكراد أهمية خاصة. وتؤكّد معلومات متقاطعة حصلت عليها «الأخبار» أنّ التنظيم المتطرّف قد استكمل استعداداته للردّ على التحركات الكردية الأخيرة عبر خطط تتداخل فيها الجبهات، ولا تكتفي بالدفاع في ريفي حلب والرقة بل تتجاوزه إلى «شنّ غزوات لن ينساها ملاحدة الأكراد وتذيقهم الويل في كلّ معاقلهم»، وفق تأكيد مصادر مرتبطة بالتنظيم. وغير بعيدٍ عن السعي إلى اصطياد «نقاط إضافية» بغية تحصيل مكاسب سياسيّة يُنتظر أن تشهد الأيّام القليلة القادمة تصعيداً سياسيّاً وإعلاميّاً يمارسه معظم الأطراف، ويُسابق آخر ميدانيّاً تبدو حلب «الجبهة الأصلح» له.
ويأتي التلويح الروسي الأخير بـ«ضربات وشيكة» تستهدف «كلّ من لم ينضم إلى الهدنة» بمثابة تمهيدٍ أوّلي لإضفاء طابع «رسمي» على الطلعات الجويّة الروسية التي نشطت بالفعل خلال الأيام الأخيرة في ريف حلب على وجه الخصوص.
التصريح الروسي الذي جاء على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف يوحي بأنّ موسكو تعتزم الكفّ عن مطالبها المتكرّرة بضرورة إدراج «حركة أحرار الشام الإسلامية» و«جيش الإسلام» على لائحة «المجموعات الإرهابية»، والعزف على وتر آخر هو استهداف المجموعتين وسواهما تحت عنوان «عدم الالتزام بالهدنة». وكان لافروف قد أكّد في مقابلة صحافيّة أنّ بلاده «لم تتخلّ عن قرارها ضرب المجموعات التي لم تلتحق بالهدنة»، موضحاً أنّ الولايات المتحدة طلبَت «تمديد المهلة عدة أيام، قبل سريان خطة سيصبح وفقها كل من لم ينضم إلى الهدنة هدفاً مشروعاً، بغض النظر عمّا إذا كان مدرجاً على قوائم الإرهابيين أو لا».
وبدا لافتاً أنّ لافروف قد حرص في المقابلة ذاتها على توجيه رسالة إلى أنقرة من بوابة الأكراد أيضاً، عبر ربطه بين إعلان «حزب الاتحاد الديمقراطي» قيام «نظام فيدرالي شمال سوريا» وبين «الفيتو» التركي المستمر على انضمام الأكراد إلى المسار التفاوضي في جنيف. ويبدو أنّ السعي إلى «مجابهة الأكراد بأبناء جلدتهم» يُمثّل رهاناً تركياً في ما يتعلّق بتركيبة الفريق التفاوضي للمعارضة السورية مستقبلاً، عبر السعي إلى إيجاد إطار تمثيلي للأكراد يحظى بالرضى التركي.
وتعكس كواليس المعارضة بشكل عام و«هيئة الرياض» بشكل خاص ملامح صراعات نفوذ وتحالفات بين أطراف ساعية إلى إحداث تغيير جذري في تركيبة «الهيئة» وأخرى متمسكة بالتركيبة الحاليّة مع إجراء تبديلات شكليّة في الوفد المُفاوض فحسب، ما يضع «الهيئة» أمام سيناريوات مفتوحة على كل الاحتمالات.
وضمن خانة زيادة الضغط على أنقرة والسعودية تمهيداً لـ«جنيفٍ مُختلف»، يُتوقّع أن تتصاعد وتيرة العمليّات العسكريّة التي بدأها الجيش السوري وحلفاؤه في حلب (وريفها الشمالي على وجه الخصوص) في شكل غارات جوية عنيفة قبل أيام. ويبدو لافتاً أنّ التلويح الروسي بمرحلة جديدة من العمليات جاء مترافقاً مع تجدّد الاستعدادات في معسكر الجيش السوري وحلفائه، عبر تحريكٍ جديدٍ لجزء من القوات واستنفار مزيد من القطع العسكرية. ويصعب الجزم بالأهداف الحقيقية لهذه التحركات في ظل التأجيل المتتالي الذي خضعت له عملية عسكرية موعودة على الجبهة الحلبية.
ومن المؤكد أن أحد الأهداف الميدانية يتمثّل في قطع الطريق على المجموعات المسلحة المدعومة تركياً وسعودياً واستباق معركةٍ جديدة كانت المجموعات تُخطّط لفتحها بالتزامن مع دخول شهر رمضان، في تكرار لمحاولات «فتح حلب». وحتى الآن تبدو الغارات الجوية العنيفة كفيلةً بوضع حدّ لأي تحرّكات هجومية تُفكّر المجموعات في الإقدام عليها، خاصة بعد أن أثبتت هذه العمليات نجاعتها في إغلاق محور «الكاستيلّو» الشهير (الذي يُعدّ الرئة الوحيدة لمسلحي أحياء حلب الشرقية) ساعات طويلة.
في الوقت ذاته تمنح التحشيدات الجارية إمكانية فتح عمليات برية على جبهات عدّة، سواء على المنافذ الشماليّة للمدينة، أو أحيائها الشرقية، أو ريفيها الغربي والجنوبي. ويكتسبُ الأخير أهمية رمزية خاصة، لا سيما بعد الانكفاء الذي مُني به الجيش وحلفاؤه على محور خان طومان ـــ العيس قبل حوالى شهر.
الاخبار – صهيب عنجريني