هل يعني هذا أن الثورة السورية قد انتهت، أو أن التحالف الشعبي الواسع الذي وقف وراءها، وضحّى من أجل انتصارها، ما لم يضحِ به شعب من قبل، قد تفكّك، وأن الخيار الديمقراطي لم يعد له أي أمل في استعادة المبادرة، ولم يبق غير الاستسلام والقبول بالأمر الواقع وإعادة تأهيل النظام؟
ينبغي القول، أولاً، إن الذي انتهى بالفعل هو النظام الذي تحول إلى أنقاض بمقدار ما حول الدولة والبلاد إلى أكوام من الركام والخراب، وأنقاض نظامه السياسي والإداري والفكري لا تختلف أبداً في حقيقة وجودها ومضمونه عن الأنقاض المادية التي نشهدها في المدن والبلدات والأحياء والقرى السورية العديدة المدمرة، وهذا يعني أنه فقد أي مقدرة على التماسك الذاتي وتنظيم نفسه وصياغة أجندة سياسية خاصة به، ولا يستمر في الوجود، على مختلف مستوياته العسكرية أو السياسية أو الفكرية، إلا بفضل ما تبثه فيه الدول الأجنبية المنتدبة باسمه، إيران وروسيا، من النظام والوحدة والاتساق. وقد سلم أمره طواعية، بما في ذلك على الصعيد العسكري، لهاتين الدولتين، وصار رهينة في يديهما،وبذلك ستعيد بناء نظام يتفق مع المصالح التي اكتسبتها وتلك التي تراهن على اكتسابها.
وبصرف النظر عما يُشاع ويتداول في الصحافة اليومية، لن تقوم للنظام قائمة بعد الآن، كما لن يأتي أي حل من الأستانة والمجتمعات الدولية والاعتراف بشرعية “الأسد” .
ثم إن نظام “الأسد” انتهى، لأنه لم يكن في أي فترة سابقة في وضع أسوأ مما هو عليه اليوم، للرد على مطالب الطبقات والشرائح والفئات الاجتماعية ، فكيف بإمكانه اليوم، بعد كل هذا الخراب والدمار، في الداخل والخارج، أن يعيد ترميم نفسه، ويرد على تطلعات الشعب الذي أدماه.
لن يوقف الثورة، بمعنى الخروج على نظام الأسد والسعي إلى إسقاطه، وربما اليوم أكثر الانتقام منه، شيء بعد الآن سوى سقوط “الأسد” بالفعل، ومعه طغمته وطرائق الحكم التي أوصلته إلى السلطة وقواعد ممارسته لها ومبادئه وتوجهاته ، وهذا يعني أن الثورة سوف تستمر، والخروج على القانون يتحوّل قانوناً ما دامت الدولة أصبحت هي نفسها من دون شرعية ولا قانون ، وإذا لم ينجح التحالف الشعبي الواسع في إسقاط الأسد بالضربة القاضية، نظراً لقوة الدعم الخارجي له، فقد قتله في حرب الاستنزاف الطويلة ، وهذا ما حصل بالضبط، وما نراه اليوم هو جثته التي يحافظ عليها ورثته بماء العين لإخفاء الوجه القبيح للاحتلال الأجنبي.
لكن سقوط “الأسد” ونظامه لن يحل وحده المشكلة، ولن يجلب الأمن والاستقرار والازدهار، فبديله لن يكون سوى حكم الاحتلال والانتداب الأجنبي معاً، وبالتالي الاستمرار في الفوضى والنزاع ،لن يحقق الاستقرار والأمن والعودة إلى الحالة الطبيعية وحكم القانون، وعودة الأعمال إلى ما كانت عليه، سوى النجاح في إقامة النظام الذي يمثل الشعب، ويستجيب لتطلعاته ويلبي حاجاته، وفي مقدمتها الحاجة إلى الكرامة والحرية، أي إلى الاعتراف بسيادة الشعب وحقه في تقرير مصيره، وقبل ذلك بوجوده كياناً وهويةً وأصلاً، وإخضاع النخب الحاكمة له ولخدمته، لا العكس. وهذا هو المخرج الديمقراطي للثورة السورية، وهو المخرج الوحيد الذي يسمح بإعادة تشكيل التحالف الشعبي الذي ثار ضد الأسد، وتعزيز أركانه الفكرية والسياسية والاجتماعية.
انتهت مرحلة أولى من الثورة السورية، وبدأت مرحلة ثانية يسيطر عليها العمل السياسي، من دون أن يعني ذلك التخلي عن المقاومة المسلحة، أو الاستهانة بدورها،
أخيراً، في السياسة، بعد نصف قرن من الحرب، الباردة والدموية معاً، وما خلفته من جراحات وندوب وانقسامات مذهبية وقومية وضياع لا يمكن لأي سلاح قاتل أن ينجح في علاجه ، وفي هذا الانتقال المنتظر من الحرب إلى السياسة، ليس هناك رهان سوى على جيل الشباب الجديد الذي عركته معارك الكفاح، من أجل التحرّر من العبودية، ولم تعد له علاقة بثقافة الماضي، ولا بأوهامه ومخاوفه ، هو وحده المؤهل لاستعادة المبادرة.
محمود المعراوي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع