أسفرت عملية درع الفرات التي تقودها تركيا بالتعاون مع الجيش السوري الحر التي انطلقت في 244 آب/ أغسطس من العام الماضي عن تحرير بلدة الباب السورية التي تعتبر عاصمة تنظيم الدولة (داعش) في ريف حلب الشرقي ومن هذة النقطة بدأت ترتسم ملامح تغيرات كبيرة على خرائط السيطرة في الشمال السوري لا سيما بعد تقدم كل من النظام وقوات سوريا الديمقراطية ما يجعل الريف الشرقي ملتقى معظم القوى المختلفة في الحرب السورية بمختلف انتماءاتها وتحالفاتها ويؤهل تلك البقعة لتكون واحدة من أسخن المناطق منذ بدء الحرب في سوريا. وتهدف تركيا لا سيما بعد سيطرتها على مدينة الباب وقيام النظام السوري بقطع الطريق أمام حربها مع (داعش) إلى التقدم نحو مدينة منبج السورية ذات الأهمية الاسترتيجية والتي تطالب تركيا قوات سوريا الديمقراطية بالانسحاب منها بشكل مستمر.
من جهة أخرى لقد ظهرت تطورات من شأنها خلط الأوراق في هذة المنطقة ذات أهمية ويوكد على عدم توصل الأدارة الأمريكية على تصور مكتمل عن مواجهة تنظيم (داعش) وكما تشير هذة التطورات إلى عدم توافق الأطراف الكبرى الداعمة للصراع في سوريا إلى استراتيجية معينة حيث أصبحت تحديد مناطق النفوذ مسرح أرادات مفتوحة.
ومع تطورات المشهد السوري سياسيًا وعسكريًا وتعاظم التنافس والصراع بين القوى الإقليمية والدولية – روسيا، إيران، تركيا، أمريكا – وتزايد تأثير الفاعلين من غير الدول تجاه الأزمة السورية وهذا يندرج ضمن نظرية الصراع وتوازن القوى بالتوازي مع نظرية الواقعية الهجومية التي أشارة إليها استاذ العلوم السياسية جون ميرشايمر في إحدى مؤلفاته وطرح ضمنها عدة فرضيات وظفها في تحليله للصراع والتنافس بين القوى العظمى في النظام الدولي أهمها: أن النظام الدولي فوضوي، وأن القوى العظمى تمتلك بالأساس القدرات العسكرية الهجومية وأن الدول لا يمكن أن تكون على يقين كامل بنوايا الدول الأخرى. من خلال ما سبق سيتم الاعتماد على الفرضيات سالفة الذكر ونظرية الواقعية الهجومية في تحليل التطورات الأخيرة السياسية والعسكرية في الأزمة السورية وبشكل خاص في منطقة منبج السورية.
أولًا: النظام الدولي فوضوي، منذ بدء عملية درع الفرات التي تقودها تركيا بالتعاون مع الجيش السوري الحر التي استطاعت القوات التركية والجيش السوري الحر من تحرير منطقة الباب من يد تنظيم (داعش) بعد ستة أشهر من بدئها أصبحت مدينة منبج السورية الشغل الشاغل بل ونستطيع القول إنها أصبحت محط أنظار القوى الإقليمية والدولية ولذلك يمكن القول إن منطقة منبج السورية ظهرت كمحطة صراع إقليمي ودولي بارز، وبالتالي دفع أطراف الصراع وداعميهم بالمزيد من القوات العسكرية إلى هذة المنطقة الصغيرة التي أصبحت تضم أكبر القوى المتنافسة للسيادة والسيطرة على المنطقة من البوابة السورية ومنذ تلك لحظة سارعت هذة الدول إلى تنفذ مشاريعها ومخططاتها من خلال استغلال هذه الفرصة، والعمل على تنفيذ مشاريعها وأهدافها في الدول الإقليمية المجاورة – سورية -مستفيدة من التعدد المذهبي، العرقي والقومي بها، وشكل هذا التطور حالة اشتباك غير مباشرة بين الدول والقوى من منطلقات سياسية، عرقية وطائفية في محاولة فرض سياستها في المنطقة.
من جهة أخرى ذهبت تلك الدول إلى دعم أطراف الصراع في المنطقة، فمن من جهة الشمال مثلًا، تتقدم القوات في إطار عملية “درع الفرات” مع مقاتلي الجيش السوري الحر، في محاولة لسد الطريق على مليشيات قوات حماية الشعب الكردية، أما قوات النظام السوري وحليفها الإيراني، فترابط بدورها جنوب المدينة، مدعومة بالقوات الروسية والمراهنة على استعادة المزيد من الأراضي، أما على صعيد الدور الأمريكي فقد قدمت القوات الأمريكية المساعدات “لقوات سوريا الديموقراطية” بحجة محاربة تنطيم الدولة (داعش) التي مكّنت “قوات سوريا الديموقراطية” من السيطرة على مدينة منبج السورية بدعم من مستشارين عسكريين أمريكيين وبإسناد جوي من التحالف الدولي، الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم الدولة (داعش). فالحالة السورية وخصوصا في منطقة منبج تُعد مثالًا واضحًا على تنافس قوى الصراع الإقليمية بدعم من القوى الدولية لفرض السيطرة والهيمنة وخلق واقع جديد ينسجم مع مخططات الحلفاء، والذي أدخل المنطقة الإقليمية في حالة فوضى تقودها إلى عدم الاستقرار على المدى المتوسط والبعيد، ما يهدد إمكانية تنفيذ أي استراتيجية تنسجم مع الأهداف والمخططات التي تضمن وتحافظ على المصالح الاستراتيجية لكل قوة إقليمية ودولية مشاركة في الأزمة السورية.
ثانيًا: أن القوى العظمى تمتلك بالأساس القدرات العسكرية الهجومية، لا يمكن تجاهل قدرات العسكرية لكل دولة إقليمية حيث تسعى كل دولة إقليمية إلى زيادة قدراتها في كافة المجالات العسكرية من أجل تنفيذ مخططاتها وأهدافها في المنطقة، وتأمين أمنها القومي بكافة الطرق واضطلاعها بدور فعال في المنطقة، وهذا ما بدا واضحًا عندما أطلقت تركيا علمية “درع الفرات” بالتعاون مع الجيش السوري الحر لتحرير مدينة الباب من يد تنظيم الدولة (داعش) ومنع وصول قوات سوريا الديموقراطية إلى الحدود التركية وقطع الطريق أمامهم، مستفيدة من القدرات والإمكانيات العسكرية المتوفرة لديها إذ تعتبر تركيا من أكبر القوى العسكرية في منطقة الشرق الأوسط وهي عضو دائم في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وتمتلك القدرة على الإنتاج والتصنيع العسكري.
كما أن إيران تمتلك ترسانة ومنظومة عسكرية متقدمة وتسعى جاهدة إلى امتلاك السلاح النووي، وهي تمتلك ضمن هذه المنظومة العامل البشري الذي ساهم في تعدد التشكيلات العسكرية المدربة وتتمتع بقدرة قتالية وكفاءة عالية كالحرس الثوري وفيلق القدس، بالتوازي مع ذلك تعتبر الترسانة العسكرية الروسية واحدة من أهم الترسانات في المنطقة من حيث الإنتاج والتصنيع والتصدير، فالمنظمة التي تمتلكها روسيا جعلتها قوة عظمى لا يمكن التغاضي عنها وباتت قادرة على التهديد في أي لحظة والوصول إلى أي مكان، وأخيرًا تمتلك الولايات المتحدة الأمريكية منظومة عسكرية دفاعية وهجومية – برية وبحرية وجوية – وأسلحة طويلة المدى جعلتها من الدول الريادية في العمل العسكري ضمن خطط واستراتيجيات عسكرية وخبراء ساهمت في جعلها قوة عظمى، هذه القدرات العسكرية لتلك القوى الإقليمية والدولية بدت ظاهرة بشكل جلي في الحرب السورية وتحديدًا في الصراع الدائر حاليًا في مدينة منبج السورية، حيث دفعت تلك القوى قواتها إليها، من جهة أخرى، تسعى هذة الدول إلى عقد صفقات كبيرة في المجال العسكري في محاولة الوصول إلى مبدأ توازن القوى في المنطقة.
ثالثًا: لا يمكن أن تكون الدول على يقين كامل بنوايا الدول الأخرى، فجميع القوى الدولية المتورطة في الصراع بسوريا- إيران، وتركيا، وروسيا، وأمريكا- غير قادرة بشكل دقيق على معرفة نوايا الدول الأخرى وبالأخص النوايا السرية، وفي الوقت نفسه تكتفي هذه الدول بالنوايا المُعلنة والملموسة على أرض الواقع. وهذا الواقع خلق حالة من الخوف بين هذه الدول وعدم الثقة بكافة تحركات وتوجهات أي قوة من هذه القوى في المنطقة وبالتالي تعززت حالة الخوف وعدم الثقة لدى كل دولة تجاة الأخرى مما أنتج نظرية المؤامرة فيما بينها، وذهبت تلك القوى إلى اتباع سياسة المغامرة والمقامرة واستغلال الأزمات والتطورات في المنطقة من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها. إلا أنه يمكن الإشارة إلى وجود حالة من التعاون والتنسيق بين بعض القوى الإقليمية والدولية ضمن مبدأ التحالف الاستراتيجي وخاصة ذلك الذي بين روسيا وإيران، هذا التحالف يخدم الأهداف المشتركة بين الدولتين، لكن تبقى جزئية عدم اليقين هي الدارجة وهذا ما بدا واضحًا في الصراع في مدينة الباب وحاليًا في منبج، فكل دولة تتحرك بناءً على تأمين وحماية مصالحها وتحقيقًا لأهدافها وتحاول استباق الأمور خشية من تحرك وقرار مفاجئ من قبل القوى الأخرى.
يمكن القول من خلال متابعة الأحداث والمجريات في المنطقة والتنافس بين القوى الدولية والإقليمية إن المنطقة تشهد أزمة، وحيث تسعى كل قوة دولية وإقليمية إلى تحقيق أهدافها التي وضعتها حيث تتجلى الأهداف الأمريكية في انتشار قوات لها في مدينة منبج هي: أولًا، تعزيز الوجود الأمريكي في سوريا: على الرغم من حضورها المبكر في ساحة الصراع، كونها تلعب دورًا في قيادة تحالف مكون من أكثر من 60 دولة للحرب على تنظيم الدولة (داعش) في العراق وسوريا، إلا أنها ظلّت تلعب دورًا ثانويًا في ظل التواجد المكثف للدور الروسي. ثانيًا، الاستعداد لمعركة الرقة: حيث أن القادة الأمريكيين كانوا حريصين على تأكيد أن هذه القوة لن تنخرط في الصفوف الأمامية، إلا أنها ستكون على مقربة من المعركة، أي أنها ستكون قوة “قيادة وتنسيق”، ولكن يتجلى الهدف الأساسي وهو “ردع ومنع الصدام بين قوات وحدات حماية الشعب الكري والقوات التركية” وفقًا لما ذكره قائد القوات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط الجنرال جوزيف فوتيل خلال جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكي، وهو ما توافق مع تصريحات المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية جيف ديفيس التي قال فيها إن الهدف هو “الطمأنة والردع” بين القوات المختلفة في منبج.
هذه التصريحات تشير إلى أن التعامل مع “قوات سوريا الديمقراطية” ما زال محور خلاف بين أنقرة وواشنطن. فالأولى تتبنى سياسة متشددة تجاه تلك الميليشيات وتعتبرها منظمة إرهابية في ظل علاقاتها القوية مع حزب العمال الكردستاني، في حين تؤكد الثانية أنها شريك أساسي لها في المعركة ضد “داعش”. أما على صعيد الأهداف التركية فهي تتركز في طرد الميلشيات الكردية التي تتمثل في قوات حماية الشعب الكردي التي تحظى بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية من مدينة منبج، وتجلى ذلك عبر تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو فور السيطرة على مدينة الباب، حين هدد بشكل صريح قائلا إن بلاده “ستوجه ضربات لوحدات الحماية الكردية إذا لم تنسحب من منبج”.
ومن جهة أخرى تتمثل الأهداف الروسية والإيرانية في دعم قوات النظام السوري التي تتمركز في المنطقة الغربية من مدينة منبج التي توفر لها روسيا الدعم الجوي بمساعدة القوات الإيرانية والمليشيات الحليفة لها. بالإضافة إلى ذلك تسعى إيران إلى تعزيز وجودها ونفوذها من الناحية السياسية والدينية في منطقة الشرق الأوسط وذلك من خلال الأزمة السورية التي شكلت مرتكزًا أساسيًا لإيران لتحقيق مشروعها القائم على تصدير الثورة ونشر المذهب الشيعي وهذا الأمر حصلت عليه بعد انهيار النظام العراقي ومن ثم استغلال الأزمة السورية، أما بالنسبة لروسيا، فالأمر يندرج ضمن إطار التحالف الاستراتيجي مع النظام السوري منذ عقود، لكن في حقيقة الأمر إن التدخل الروسي منذ اللحظة الأولى في الأزمة السورية يندرج ضمن الأهداف الاستراتيجية لروسيا وذلك باتخاذ الأزمة السورية بوابة للولوج إلى منطقة الشرق الأوسط ومزاحمة القوى الدولية الأخرى وخاصة أمريكا في السيطرة والهيمنة على المنطقة وفرض أجندتها عليها، إلى جانب الوصول إلى تحقيق الهدف الأسمى لها منذ سنين طوال بالوصول إلى المياه الدافئة.
ترك برس