القدس العربي – صبحي حديدي
ثمة جانب من الطرافة في التراشق بين موسكو والنظام السوري، عبر صحافة مقرّبة من سيّد الكرملين أو مراكز أبحاث تابعة لوزارة الخارجية الروسية، من جهة؛ وأبواق أجهزة بشار الأسد بإدارة بهجت سليمان، ضابط الأمن/ السفير السابق المحال إلى سلّة مهملات التاريخ، تؤازره حفنة من العرب أمثال عباس زكي وسعود قبيلات وحسن نافعة، من جهة ثانية. الفريق الأوّل يتناول النظام وكأنه ناطق باسم المعارضة، يقول إن صفحة الأسد وبطانته ينبغي أن تُطوى، ويعلن أنّ “الفساد أدهى من الإرهاب”؛ وأمّا الفريق الثاني فيتوجه بالشكوى إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كي يتدخل ويوقف الهجمات، أو يذكّر بأنّ الأسد إذا غضب قادر على الإطاحة برئاسة فلاديمير بوتين نفسه وليس أقلّ!
وجه آخر للطرافة هو صمت المؤسسات الرسمية ذاتها، وكأنّ يفغيني بريغوجين (صاحب “وكالة الأنباء الفدرالية” التي نشرت ثلاثة تقارير مناهضة للأسد، ومالك “مجموعة فاغنر” للمقاتلين المرتزقة) ليس أحد أقرب المقربين من الرئيس الروسي؛ أو أنّ “المجلس الروسي للشؤون الدولية” ليس مرتبطاً مباشرة بالخارجية الروسية. أو، على الطرف الثاني، كأنّ “المثقفين والمفكرين” الذين جنّدهم سليمان إنما ينطقون عن هوى، وليس ثمة أيّ وحي يوحى. أو، على الطرفين معاً، كأنّ فتوى لأحد أعضاء المجلس الروسي، مكسيم سوشكوف، تفيد بأنّ الكرملين ليس مهندس التراشق؛ أو فتوى لوزير إعلام أسبق للنظام وعضو في القيادة المركزية لحزب البعث السوري، مهدي دخل الله، تنتقد العنتريات ضدّ شخص بوتين؛ تصلحان لإخفاء قرص الشمس بغربال.
فإذا وُضعت الطرافة جانباً، ونُظر إلى التراشق من زوايا تعتمد سلسلة عناصر جادّة فعلية على الأرض، وليس حتى اتكاءً على المبدأ القديم القائل بأنّ الدخان علامة النار البيّنة؛ فإنّ الكرملين ليس، في هذه البرهة على الأقلّ، بصدد إزاحة الأسد أو التعامل مع مفاسد نظامه عن طريق العلاج بالصدمة. سبب أوّل، أخلاقي هذه المرّة، هو أنّ بوتين ليس من كارهي الفساد، وليس نظيف اليد، وليس خالياً من بطانة لصوص نفط ومافيات نهب بل هو كبيرهم الذي يعلمهم السحر؛ وبالتالي لا دافع يمكن أن يحثه على تطهير نظام أسلم له تسعة أعشار المقدّرات، سياسية واقتصادية وعسكرية. سبب ثانٍ، جيو ــ سياسي هو أنّ تباشير استدخال الأسد في محاور إقليمية، مع الإمارات ومصر وليبيا الماريشال الانقلابي حفتر، يخدم موسكو جيداً: سواء في ممارسة المزيد من ألعاب الضغط على تركيا، أو في تعكير صفو ترتيبات الولاء الأمريكية في المنطقة. وسبب ثالث، ولكنه ليس الأخير بالطبع، هو أنّ موسكو سعت إلى تفكيك بعض مراكز القوى داخل النظام (عبر سهيل الحسن، وبعض الميليشيات، وتحريك ورقة رامي مخلوف…)، ولكنها حتى الساعة لم تسعَ إلى، ولا يلوح أنها تنوي الآن، تصنيع شخصية بديلة عن الأسد، بصرف النظر عن المواصفات المطلوبة ودفتر الشروط.
علام التراشق، إذا صحّت هذه الحال؟
عديدة كانت مناهج بوتين في التدخل العسكري لإنقاذ النظام من حافة الانهيار، على رأسها مغانم المليارات التي يتوجب أن تتدفق تحت بند “إعادة إعمار” سوريا، ويُفترض أن تذهب حصة الأسد فيها إلى موسكو، إذا أقنعت كبار المانحين بأنّ بيت النظام الداخلي جرى تنظيفه بنسبة 51% على الأقلّ. لا ضرر، إذن، على أعتاب سنوات خمس أعقبت انتشال النظام، من إظهار “عين حمراء” هنا، أو “فركة أذن” هناك؛ ليس أكثر. بوتين يدرك أن ما يُسمّى بـ”المجتمع الدولي” لن يكترث كثيراً باسم المقيم في “قصر الشعب”، إذا توفرت تطمينات بأنّ المليارات لن تتبخّر على أيدي حيتان نهب جديدة، حلّت محلّ تلك القديمة. صحيح أنّ اسماً آخر غير الأسد قد يجمّل المشهد أكثر، ويذرّ بعض الرماد الضروري في العيون، ولكن حكمتهم القديمة ما تزال سارية المفعول أغلب الظنّ: الشيطان الذي نعرف، خير من ذاك الذي لم نجرّب بعد.
ولهم في أحكام التعامل الإسرائيلي مع آل الأسد قدوة مثلى!