تلتفت إلى يمينها، تغمض عينيها قليلا، تتذّكر ذاك اليوم الذي نجت فيه من موت محتّم، تنظر إلينا ثمّ تبتسم، وتحكي لنا حكايتها مع سيارات الزيل في أواخر ال2011.
ما مصير العقارات التي تم شراؤها في الشمال السوري دون وجود أوراقٍ ثبوتيّةٍ رسميّة
تقول أفياء، كنّا أسرة مثالية متحابّة، ونحظى بقدر من الحياة الكريمة ولله الحمد، نعيش في بيتٍ ريفيٍّ أشعر أنّه الأجمل على الإطلاق، ولم أر في حياتي أجمل منه، ولا آمن منه، على الرغم من أنّ قريتي تمتاز ببيوتها وطبيعتها.
شاء الله أنْ تبدأ الثورة ونكون أوّل المهجّرين من القرية بعد أنْ داهم الجيش بيتنا وعاث فيه الفساد، فذهبنا إلى قرية أخرى في ريف حماة الشمالي، تبعد عنا قرابة نصف ساعة.
خرج أخوتي مع بداية الحراك الثوري وانخرطوا في صفوف الثورة، وتفرّق شملنا ومن يومها إلى الآن لم نجتمع كلنا معا إلا مرة واحدة.
تقول أفياء، في يوم ما شعرت بشوق عارم لأخي الكبير، وكان مقرّه آنذاك في “شهرناز”، ولا توجد لدينا سيّارة، فكانت وسيلتنا للذهاب هي “الموتور”، فذهبت أنا وأخي أبو البراء، وذهب معنا أخي الآخر وزوجته وابنه.
وبعد العصر نزلنا من الجبل، وأصرّ ابنه الصغير أن يذهب معنا لرؤية جدّته، فركب معي ومع أخي، في حين ركب أخي الثاني وزوجته على “الموتور” الآخر.
آنذاك، كانت الحواجز الطيارة منتشرة على الطرق الترابية، والرئيسية كذلك، فأي طريق تسلك سيكون فيه مخاطرة، ولكن يبقى الطريق الترابي أقل خطرا من النظامي.
قبل مفرق القرية التي نحن ذاهبون إليها يوجد مفرق هو الأخطر، فغالبا ما تتمركز عليه حواجز طيارة للجيش.
الحواجز الطيارة، هي حواجز لقوات النظام المتنقلة، لجأ إليها الجيش في السنوات الأولى للثورة، ينصبها بطريقة عشوائية على الطرقات ولا سيما الفرعية منها لمداهمة المدنيين والمطلوبين لدى النظام، والذين يخشون من المرور على الحواجز النظامية خوفا من الاعتقال أو السوق للخدمة الإلزامية.
تقول أفياء: “تقدّمنا أنا وأخي لنكشف الطريق لأخي الأكبر وعائلته، وابن أخي الصغير بيني وبين عمه، وهم وراءنا يستقلون الموتور الآخر، وبينما نحن على الطريق الترابي وإذ بسيارتي زيل تتجهان نحونا مباشرة ويبدأ العساكر بإطلاق النار علينا. ويوجد مسافة فاصلة بيننا وبين أخينا الآخر حوالي 200 متر”.
في هذه الأثناء يفترق الأخوة كلّ في اتجاه، أحدهم يأخذ طريقا شرقيا وتلحق به سيارة زيل وتبدأ بالرش عليهم بشكل جنوني، والآخر يسلك الطريق الشمالي باتجاه القرية، وتلحق به سيارة الزيل الأخرى، ويفصل بينهما قناة مائية تغذي أراضي القرية تسمى “شقّة الألمان”.
يجتازون الطريق الترابي إلى طريق كله حصى، ولشدة السرعة يتطاير الحصى من أمام دولاب “الموتور” ومن خلفه، والعساكر يطلقون النار عليهم كزخّ المطر.
تقول أفياء” بدؤوا يطلقون النار علينا بكثافة، ولكن الله الحامي، ومن شدة سرعة “الموتور” نشعر أننا نرتفع عنه نصف متر ثم نهبط، كان همي وقتها الطفل الصغير “ابن أخي” وأنا أحضرته وهو أمانة عندنا، فضممته إلى صدري وانحنيت عليه لأحميه، وأخي انطلق بأقصى سرعته حتى اقتربنا من مفرق القرية”.
في هذا الوقت أهل أفياء والجيران وقفوا ينظرون من بعيد إلى هذه المطاردة بين الجيش وهؤلاء المساكين الذين يركبون “الموتور”، ويسمعون أصوات الرصاص ولكن ليس بيدهم حيلة، وأمّ أفياء تنظر مع الناظرين، وتقول: ” كان الله في عون أمهم، لو أنهم يأتون إلينا لكنت خبأتهم عندي”.
تقول هذه الكلمات وهي لاتدري أن أولادها فلذة كبدها هم من يطاردهم الجيش ويصوب نيران حقده عليهم.
بعد قليل يستطيع الأخوة النجاة من بين رصاص الجيش بقدرة الله تعالى ورحمته، ويصلون إلى القرية، من الطرف الآخر، لتستقبلهم أمهم بلهفة ودمعة وحمدا لله على السلامة بعد أن عرفت أنهم هم من كانوا بين نيران الحقد والموت المحتوم لولا لطف الله.
والجدير بالذكر أن سيارات الزيل العسكرية، سيارات رُوسية شاحنة استخدمها الجيش لنقل عناصره ومعداته في حربه على الشعب السوري الأعزل.
بقلم : ظلال عبود
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع