قد تبدو لبنان ـ ظاهرياً ـ على أنها لا تزال بعيدة في الوقت الراهن عن الانزلاق إلى حرب أهلية، فبعد سلسلة من التفجيرات التي حدثت ـ مؤخراً ـ في جنوب لبنان، ساد مستوى غير مسبوق من الهدوء في الشمال السني والجنوب الشيعي المتقلبين. ويبدو أنه حانت الآن، اللحظة التي يمكن أن تستخدم فيها كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، نفوذهما لمنع النظام السياسي متعدد الطوائف في لبنان من الانهيار. وأما في الخلفية، فنجد إسرائيل و«حزب الله» اللذين ما زالا يشتبكان بصوت مرتفع ومستمر، حيث يسود مبدأ العين بالعين، والتهديد مقابل التهديد، وهو ما أثار بعض المخاوف من أن تخرج تلك العداوة المتبادلة عن نطاق السيطرة في القريب العاجل، وأما وسط بيروت فما زالت السلمية تطبع شوارعه، حيث يستمر النزاع بين السياسيين والمواطنين على شبكات التواصل الاجتماعي حول أزمة القمامة، وما يزال هناك فراغ رئاسي، إضافة إلى مشكلة اللاجئين المتفاقمة في البلاد.
وإذا كان هذا حال الداخل، فإن الأمر على المستوى الخارجي، ليس بأفضل منه، إذ أدى تدخل «حزب الله» في سوريا إلى توتر العلاقات الثنائية بين لبنان والعديد من الدول العربية، وتُرك لبنان معزولاً، باستثناء استمرار علاقاته مع عدد قليل من الأصدقاء في المنطقة، خاصة بعد أن رفضت الحكومة اللبنانية إدانة الهجوم الذي استهدف السفارة السعودية في طهران، مما دفع بالسعودية إلى وقف منحة تقدر بمليار دولار، كانت قد وعدت بها قوات الأمن الداخلي. كما أن هذه المواقف المتصلبة للحكومة اللبنانية، ساهمت في تغذية الاعتقاد المتنامي بأن لبنان بدأ يَنْظَمُّ ببطء إلى مجموعة صغيرة من الدول العربية المارقة التي تفضل الدعم الإيراني على الدعم العربي.
وهناك افتراض قوي، يسلم بأن تحول لبنان إلى صف إيران، يوضح مدى قوة تأثير «حزب الله» التي لا يمكن احتواؤها – وهذا صحيح إلى حد ما، لكن المعارضة المعتدلة في لبنان ـ التي يقودها رئيس الوزراء السابق سعد الحريري ـ وقعَت أيضاً في المحظور، إذ فشلت في مواجهة استراتيجية العلاقات العامة الماكرة التي يتنباها «حزب الله». وقد لعب العماد ميشيل عون، وابن زوجته ـ وزير الخارجية جبران باسيل، دوراً كبيراً في بث المخاوف في نفوس المسيحيين الموارنة والشيعة، وإقناعهم بأن “الوهابيين التكفيريين” ينوون تحييد كلا الطرفين في الصراع الدائر. وعلى الرغم من الانتقاد العلني الذي وجهته المعارضة المعتدلة ضد «حزب الله» ومؤيديه بسبب تدخله في سوريا، إلا أنها تحاول ـ من وراء الكواليس ـ التوسط في صفقات لتقاسم السلطة مع تلك المجموعات، سعياً منها للحفاظ على الوضع الراهن غير المستقر بطبيعته. فالتفجير الأخير لـ “بنك لبنان والمهجر” (“بنك بلوم”)، أكد أن تلك التصدعات ما هي إلا بداية لصراعات أكثر وضوحاً وعلناً.
ومن ناحية أخرى، قد يؤدى سعي الجماعات السنية لمناهضة نفوذ «حزب الله»، إلى تحقيق نتائج عكسية في اتجاه آخر. ومن أبرز العلامات الدالة على التحول السياسي الذي طرأ في علاقات المعارضة المعتدلة، نذكر مساهمة ناخبي طرابلس في فوز وزير العدل “أشرف ريفي” في الانتخابات البلدية خلال الشهر الماضي، حيث حصل على ثمانية عشر مقعداً من جملة أربعة وعشرين. إلا أن هذا النصر الذي حققه “ريفي” في طرابلس تسبب في الإخلال بالسيطرة التقليدية لسعد الحريري و”حزب المستقبل” على المنطقة. ولقد أكد رفض الحريري مواجهة «حزب الله» والتنسيق السياسي مع زعماء حركة 8 مارس، من خلف الأبواب، على أن فرص المصالحة الوطنية مازالت ضئيلة. وعلاوة على ذلك، فإن شعبية الحريري تؤشر على ميلاد صانع ملوك سني لبناني جديد، وعلى بروز نهج جديد لمواجهة النفوذ الإيراني. ويستمد تحالف “ريفي” دعمه من قطاع واسع من الأحزاب السنية المدعومة من قبل الإسلاميين الذين يرفضون استيعاب «حزب الله» في مقابل السلطة السياسية.
في المقابل، تشير رغبة “ريفي” في محاباة المتشددين الإسلاميين إلى بداية انطلاق كتلة سياسية سنية لمواجهة علنية ـ سياسية وعسكرية ـ ضد «حزب الله». وقد أظهرت عملية اغتيال أحد قادته في سوريا ـ مصطفى بدر الدين ـ والإصرار المثير للدهشة لمجموعة لم يسمها “المتمردون السوريون” التي كانت مسؤولة عن الهجوم، أظهرت لبعض السنة، أن سوريا جعلت «حزب الله» أكثر ضعفاً من أي وقت مضى.
وقد وضع “أشرف ريفي” أيضاً، استراتيجية اقتصادية وسياسية، مهدت لتحقيق نجاحه في العملية الانتخابية، إذ أكد الرجل على ضرورة إعادة بناء وتطوير طرابلس – المعقل التقليدي للسنة في الشمال، فهذه المدينة الشبيهة بالمناطق السنية المتمردة في العراق وسوريا، أصبحت ـ اليوم ـ نقطة ساخنة للفساد، وللعنف، ولنشاط العصابات، وقد أدى هذا التدهور إلى تهديد مكانة الزعماء الوطنيين من السنة وحظوتهم لدى العشائر في طرابلس. وبالمقابل، قدمت تلك الفوضى السائدة غطاء لأمراء الحرب الذين يستغلون الانتعاش الحالي في السوق السوداء بطرابلس، للاستفادة من الحرمان الاقتصادي والسياسي الذي يعاني منه المواطنون.
إن تشجيع التنمية في طرابلس سيؤدى بالطبع، إلى إدخال الكثير من التحسينات على البنية التحتية المتداعية في الشمال اللبناني، وقد يؤدى أيضاً ـ بغض النظر عن والازدهار الذي قد يتحقق والفوائد الملموسة – إلى إنهاء الصراع الطويل بين السكان العلويين من “جبل محسن” الذين يدعمون بشار الأسد، وبين السنة في “باب التبانة” الذين يدعمون المعارضة السورية. خاصة وأن هناك بعض الدلائل على أن تلك الخطوة الهامة تحظى بقبول وتأييد معظم أعضاء “تيار المستقبل”.
وإذا كانت إعادة إعمار طرابلس وتنميتها ستمثل تحولاً في الاتجاه الصحيح المرحب به من جل الأطراف، فإنه بالمقابل، هناك حركات سياسية لبنانية أخرى تسعى إلى إحباط أي محاولة من طرف التيارات المعتدلة التي تتوخى إعادة التوازن. إذ ـ وإلى يومنا هذا ـ مازالت عملية شد الحبل وتبادل الاتهامات بين السياسيين من السنة وبين «حزب الله» وأنصاره مستمرة، حيث كل منهما يلقي اللوم على الطرف الآخر، لتحميله المسؤولية عن المصائب التي تحدث للمواطنين.
وتحتاج المعارضة السنية اللبنانية إلى الدعم الخارجي، حتى تتمكن من كسر الهيمنة الشيعية، وإذا ما استطاع “ريفي” ومؤيدوه إثبات جدارتهم، بالتخلي عن الدعم الذي يأتيهم من جانب الإسلاميين المتشددين، فإن ذلك سيساعدهم على كسب تأييد الحلفاء التقليديين للحريري في العالم العربي. ومن ثم، فإن اندلاع انتفاضة غير عنيفة ومسببة لهزة في السياسية الوطنية اللبنانية، ستكون لها نتائج جيدة بالنسبة للبنان والغرب، ومنطقة الشرق الأوسط ككل. وعلاوة على ذلك، تشير نتائج الانتخابات البلدية التي تم اجرءها في الصيف الماضي إلى أن هناك غضب شعبي متنامي في ما يخص الوضع الراهن في لبنان. ومع ذلك، فإن الغريب في الأمر، أن «حزب الله» قد أثبت بالفعل في عام 2008 أنه سيجلب أسلحته إلى شوارع بيروت، إذا ما استشعر أي تهديد يضر بمصالحة وأهدافه السياسية. ولعل لسان حال لبنان يفصح عن هذا التهديد، حيث يستمر زعماء السنة في مواصلة عصيانهم المسلح.
وبعيداً عن النتائج المثلى التي أتت بها ثورة الأرز الثانية، ما زالت هناك عدة خيارات لإجبار الأحزاب السياسية اللبنانية على العودة لاقتسام السلطة قبل أن يصل الوضع إلى الانهيار التام. وهناك احتمال آخر، يتمثل في إمكانية ظهور ” قوات دفاع ” سنية مدعومة من قبل الغرب ودول «مجلس التعاون الخليجي»، لتعمل جنباً إلى جنب ـ وفى وقت واحد ـ مع القيادة المركزية اللبنانية من أجل استتباب النظام في المناطق السنية، ومن أجل مواجهة قوة «حزب الله». كما أن إمكانية زيادة حجم القوات المسلحة اللبنانية المحايدة نسبياً، ربما توفر رمزاً سياسياً للمنطقة، يتخطى طائفية الماضي والتطرف الديني والسلطة السياسية، وذلك من خلال دفع الجيش إلى تأييد عملية ترشيح رئيس محايد من صفوفه. فالجيش اللبناني – الذي هو أحد المؤسسات الأفضل أداءً في لبنان – أظهر فاعليته في عام 2008 بعد أن تمكن من سحق تمرد الإسلاميين ـ”حركة فتح الإسلام”، وذلك بعد وضع خطة أمنية قامت بتغيير نقاط التفتيش غير الرسمية التي تديرها المليشيات، واستبدالها بمناطق أمنية أكثر فاعلية.
وختاماً، وفي ظل انحسار قوة «حزب الله» وجرأة السنة، من خلال التحركات العلنية لبعض الوجوه المنتمية إليها حديثاً، يبدو أنه سيكون من المستحيل التوفيق بين الأطراف السياسية في لبنان، كما من المستحيل جذبهم إلى طاولة المفاوضات لانتخاب رئيس جديد. ومع ذلك، فإن عدم الاكتراث بتلك التغيرات ليس بالموقف الصائب الصحيح، حيث أن الدعم الدولي والإقليمي لقوات محايدة وفاعلة في لبنان، قد يوفر خطاباً شرعياً وتنافسياً للقوات الأكثر تطرفاً. وفى الوقت الذي يفضَّل فيه أن يحكم لبنان كيان مدني، فإن الحقائق على الأرض، تشير إلى أن الجيش اللبناني هو الخيار الأكثر مصداقية لملء هذا الدور. وعلى الرغم من أن ذلك قد يثير السخرية، فإن تحقيق السلام في لبنان من خلال قيام حكومة مدنية فعالة، يقتضي بالضرورة، تغيير الجيش اللبناني لاتجاهات السياسة الحالية في البلاد.
داني الطهراوي هو يعمل كمحرر لجريدة العراق مونيتور منذ عام 2014
داني خليل الطهراوي
“منتدى فكرة”