يُفترض أن الهويات الطائفية قد تشكلت في الشرق الأوسط قبل قرون عديدة. ومع ذلك، يبدو أنها تُولّد أكثر الصراعات دموية في المنطقة في الوقت الحالي. ففي حين كانت إيران قد دعمت الرئيس السوري بشار الأسد في سوريا والمتمردين الحوثيين في اليمن، وضعت المملكة العربية السعودية استراتيجية لإسقاط كل منهما. وقد ازدادت التوترات في وقت سابق من هذا الشهر بعد أن أغضبت السعودية إيران عبر إعدام رجل دين شيعي سعودي بارز، الذي ادعى النظام السعودي أنه كان إرهابياً. وعندما احتج الشيعة في إيران والسعودية، وكان احتجاجهم عنيفاً أحياناً، طردت المملكة الدبلوماسيين الإيرانيين خارج أراضيها.
لكن الصراع في المنطقة أكثر دقة بكثير من مجرد حرب طائفية بسيطة. فالخطاب السعودي على سبيل المثال، والذي تحكمه الوهابية الراسخة بعمق، مختلف للغاية عن استخدام تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (المعروف أيضاً باسم «داعش») لمنهجية معاداة الشيعية من أجل استغلال المظالم السياسية والاقتصادية ضد نظام الأسد الشيعي العلوي وضد إبعاد السنة في العراق في ظل حكومة رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي.
وفي الواقع، تندرج في هذا الإطار ثلاثة أنواع واسعة النطاق من الطائفية. فبعض الجماعات والدول قد دمجت المواضيع الطائفية في نسيج الأنظمة السياسية والثقافية والتعليمية. بعبارة أخرى، تم إضفاء الطابع المؤسساتي على الطائفية. وأبرز مثال على ذلك هو بالتأكيد المملكة العربية السعودية وعدائها للشيعة الذي يعود إلى قرون. إذ إن محمد بن عبد الوهاب، المعروف بكونه الأب المؤسس للوهابية والذي شهد تأسيس الدولة، جعل معاداة الشيعية عنصراً أساسياً في مذهبه. وتشكل إيران مثالاً إضافياً على ذلك. فقد طوّر روح الله الخميني، قائد الثورة الإيرانية والمرشد الأعلى الإيراني في وقت لاحق، نظرية الحكومة الإسلامية المعروفة باسم “ولاية الفقيه”. واعتبر أنه يجب على المسلمين أن يعيشوا في ظل نظام يشرف عليه علماء في الشريعة، وعلى وجه الخصوص، أولئك المدربين وفق تقليده الشيعي، والبارعين في تفسير الشريعة الإسلامية. وقد شكلت نظريته المبادئ التأسيسية للجمهورية.
وحتى إن بعض المجتمعات غير الحكومية، مثل السلفيين، قد أضافت الطابع المؤسساتي على طائفيتها. إذ يدّعي السلفيون بأن نسختهم المحافظة من السنيّة تتمسك بالفهم الحرفي للإيمان الذي اتبعه النبي محمد وأقرب أتباعه. وبالتالي، هم يعتبرون أن الشيعة مرتدون. وعلى الرغم من أنهم لا يدْعون إلى تأسيس دولة (وفي معظم الحالات حتى يقاومون ذلك)، إلا أن السلفيين قد نظموا معارضتهم للشيعة على مدى القرن العشرين من خلال تعزيز الأطروحات الدينية القديمة والتي تدعم مبدأهم الديني. حتى إنهم، في الستينيات من القرن الماضي، بدؤوا بتدريس السلفية في الجامعات الإسلامية في المملكة العربية السعودية والمعاهد الوهابية في جميع أنحاء العالم.
وفي الطرف الآخر من الطيف الطائفي تبرز الطائفية العرضية، كما يوحي اسمها، والتي لا تشمل جهداً متعمداً لتنفيذ أجندة طائفية. ولا تلعب الطائفية فيها دوراً مركزياً في أهداف الدولة أو الجماعة، حتى ولو كانت تنطوي على إيحاءات تشير إليها. المثال الأكثر صلة بالموضوع هو الحرب الأهلية السورية، إذ بدأت على شكل صراع يتركز على تغيير النظام. وفي الواقع، قللت عائلة الأسد الحاكمة عمداً من انتمائها العلوي بشكل خاص لأنه يُنظر إليه على أنه هرطقي (مخالف للإجماع) من قبل الشيعية الإثني عشرية الأكثر هيمنة في إيران. وبالتالي، وبغية تأمين السلطة والشرعية، تحالف الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، والد الرئيس الحالي بشار الأسد، مع جماعات شيعية أخرى في دول المنطقة، مثل لبنان. وعلى الرغم من أن الصراع السوري يشمل بالتأكيد بعداً طائفياً، إلا أن هذا البعد ليس جزءاً مؤسساتياً لا من الحرب ولا من الجهات المعنية؛ بل تم نسبه إليها عرضياً. وينطبق الأمر نفسه على المتمردين الحوثيين في اليمن، الذين ينتمون إلى الأقلية الزيدية، ولكنهم لا يحاربون النظام لأسباب طائفية.
وأخيراً، هناك الطائفية الاستغلالية، وهي الفئة التي تتميز بها تكتيكات العديد من الجهات الفاعلة الأكثر عنفاً في المنطقة وطبيعتها. إذ يستغل تنظيم «الدولة الإسلامية» على سبيل المثال فراغ السلطة المحلية من أجل بناء قدراته والسيطرة على الأراضي. كما أن بعض جماعات المعارضة السورية، مثل «أحرار الشام» و«جبهة النصرة»، عززت الشق الطائفي من أجل تحقيق أهدافها السياسية، سواء كان ذلك بغية تحويل سوريا إلى نسختها الخاصة من الدولة السنية المستقرة أو ببساطة من أجل إسقاط الأسد. ولتوضيح الأمر، تلتزم هذه الجماعات كافة على قدم المساواة بمبادئها الطائفية، ولكنها لم تذهب كلها بعيداً في هذا النهج بقدر ما فعل تنظيم «داعش»، عبر إضفاء الطابع المؤسساتي على معتقداتها على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن نظام التصنيف الثلاثي المستويات موضع البحث يشكل دليلاً مفيداً لفهم كيفية تصرف الأطراف الفاعلة في المنطقة. فيمكن للأطراف التي تعتمد الطائفية المؤسساتية، مثل المملكة العربية السعودية وإيران، أن تستغل أيضاً الأمر، وتحقن طبقة من “الطائفية العرضية” في صراع كان غير طائفي، كما شهدنا في سوريا واليمن. أضف إلى ذلك أن المملكة قد استغلت قانون العقوبات الخاص بها لتضخيم البعد الطائفي للجغرافيا السياسية الإقليمية عن طريق إعدام شخصية شيعية رفيعة المستوى. وفي حين يصعب تحديد الدوافع الدقيقة لهذه الخطوة، من المرجح أن تكون المملكة العربية السعودية قد سعت إلى تحفيز رد فعل إيراني عدواني بينما كان يتم رفع العقوبات عن إيران أو ، كما اقترح البعض وبشدة، تذكير الولايات المتحدة بأنه بإمكانها مواجهة إيران بمفردها، وخاصة عندما ترفض واشنطن القيام بذلك.
هذا وقد تتعلم الأطراف التي تعتمد الطائفية الاستغلالية إضفاء الطابع المؤسساتي على تصرفاتها. ونشهد هذا مع تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي يسعى بنشاط إلى إقامة نظام حوكمة، سواء عبر إصدار مراسيم بشأن كيفية التعامل مع الأقليات أو من خلال تصميم المناهج التعليمية. فهذه العملية تبني قنوات لـ «داعش» بغية تطبيق عقائده وتكريسها، فضلاً عن اكتساب مصداقية من أولئك الذين يشاركونه رؤيته في جميع أنحاء العالم. وينطبق الأمر نفسه على الجماعات المعارضة السورية. فقد أنشأت «جبهة النصرة» و«أحرار الشام» محاكم وهيئات قضائية تطبق نسختها الخاصة من العدالة. ومن الجدير بالذكر أن الدولة السعودية الأولى، التي تأسست في القرن الثامن عشر، ظهرت، مثلها مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» اليوم، من الفراغ السياسي من خلال الاستفادة من فرص استحواذ الأراضي التي نتجت عن الإهمال الإقليمي.
إن فهم الطبيعة الديناميكية للطائفية سيسمح للولايات المتحدة بالاستجابة بشكل أفضل للتحديات الطائفية الناشئة. أولاً، يجب على واشنطن أن تدرك أنه من غير البنّاء تعطيل الطائفية المؤسساتية. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، غير قادرة على تغيير المعايير الاجتماعية السعودية أو الإيرانية، وغير مرحب بها للقيام بذلك، على الرغم من عدم ارتياحها للوضع. ومن شأن توزيع أفضل للانتباه الأمريكي والموارد الأمريكية أن يردع الأعمال الاستغلالية من قبل الأطراف التي تعتمد الطائفية المؤسساتية، مثل المملكة العربية السعودية وإيران. ولا يمكن لواشنطن القيام بذلك سوى عن طريق لعب دور فاعل في القيادة في المنطقة والعمل، على سبيل المثال، مع المجتمعات المحلية لإعادة بناء بنيتها التحتية بحيث لا تتجه إلى البدائل الطائفية.
ويمكن اعتماد المنهجية نفسها في محاربة الجماعات الاستغلالية مثل تنظيم «داعش». فعلى الرغم من أن العملية التي تقوم بها الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب قد تبنت مؤخراً مفهوم “مكافحة التطرف العنيف”، بيد أن هذه الجهود ستوقع واشنطن في النهاية في حفرة أيديولوجية لأنه ليس من ضمن الاختصاص المادي أو القانوني أو السياسي للحكومة الأمريكية مواجهة الطروحات المتطرفة، والتي غالباً لها جذور تاريخية. على سبيل المثال، إن العداء السني للشيعة بسبب تعظيمهم لأئمتهم (وبالتالي، فإن ذلك يشكل انتهاكاً لمبدأ وحدانية الله، وفقاً للسنة) هو موضع جدل يعود إلى فترة تكوين السنية. فكيف يمكن حتى للولايات المتحدة أن تبدأ بالتصدي لهذا الطرح؟
وتتضمن المبادرات الأكثر منطقية، دراسة الكيفية التي تستخدم فيها الأطراف الاستغلالية المواضيع الطائفية لمصلحتها الخاصة. فعلى الرغم من أن الأدب السلفي مليء بالكراهية للشيعة، إلا أن الجماعات الجهادية السلفية، مثل تنظيمي «القاعدة» و«الدولة الإسلامية»، هي التي تستخدمه لتبرير أعمال العنف تجاه الشيعة والجماعات الإسلامية الأخرى غير السنية. فبدلاً من اقتراح بدائل لهذه العقائد الطائفية، يجب على واشنطن التركيز على منع هذه الأطراف الجانحة من إضفاء الطابع المؤسساتي على رؤيتها العنيفة من خلال المدارس والإدارات التي تخلد هذه الأفكار. فإذا تُركت لحالها، من المرجح أن لهجة الطائفية، التي سيتم إضفاء الطابع المؤسساتي عليها، ونوعها، سيكونان أكثر دموية، وربما أكثر جاذبية للمجندين المحتملين. لهذا السبب تتطلب عملية وضع استراتيجية طويلة الأمد للصراعات الطائفية إدراك مبدأ عدم تشابه جميع أنواع الطائفية.
يعقوب أوليدورت هو زميل “سوريف” في معهد واشنطن. نريد الإشارة هنا إلى أن جميع بيانات الوقائع أو الرأي أو التحاليل التي تم التعبير عنها في هذه المقالة هي آراء الكاتب فقط ولا تعكس مواقف أو وجهات النظر الرسمية للحكومة الأمريكية.
مركز الشرق العربي