لسبب عربي، اهتم اللبنانيون بسورية وبالعلاقة معها، ومصطلح اللبنانيين يضم الجمع السياسي كله على اختلاف أهوائه السياسية، ويستوي فيه من يخاصم السياسة السورية ومن يواليها، ومن يبتعد عنها ومن يقيم معها صنوفاً من العلاقات، فهذا ما أكدته الوقائع التاريخية التي تبدلت خلالها مواقع الخصوم والحلفاء في سياق العلاقات اللبنانية السورية.
السبب العربي اشتمل ماضياً، على الانضمام إلى رؤية قومية عربية كانت لها مستنداتها، واشتمل أيضاً على نظرة عربية عامة مضمونها سلامة البلاد العربية وأمنها واستقرار العلاقات في ما بينها، وقد اجتمعت الرؤية والنظرة، فوق مساحة كلام محدد وعام، فحواه النطق بالمصالح الاستراتيجية العربية، والجهر بضرورة صياغة رؤية متقاربة حول الأخطار التي تهدد «العروبية» العامة، بخاصة في مجال القضية الفلسطينية، وحول الحد من أخطار النفوذ الخارجي، في شقيه الدولي والإقليمي. لم يكن عسيراً على الناظر أن يلحظ المفارقة بين النطق العام العربي الحريص، وبين السياسات المتفرقة التي اتبعتها الدول العربية، مجتمعة ومفردة، ولم تكن كلها مشدودة إلى الحرص البياني، أو الشعاري، الذي تضج به المنابر وقاعات المؤتمرات.
السبب اللبناني العربي أعلاه، واكبته واتصلت به أسباب داخلية على صلة بحسابات القوى المحلية، بما اعتنقته من أفكار وسياسات، وبما أقدمت عليه من ممارسات، في الحقل الوطني الداخلي العام، ومع المدى العربي الذي توزع فضاؤه سياسات ومحاور، وأقامت على التنافر البيني لحقبات وأعوام.
لقد تراجعت الأسباب اللبنانية العربية تباعاً، مع تراجع كل أفكار العروبة وشعاراتها، واختفت أشكال من السياسات اللبنانية العروبية مع انهيار الأنظمة التي قامت باسم المشاريع القومية، وزادت الفرقة بين أطياف اللبنانيين بالتناسب مع ازدياد التشظي الذي عصف بأكثر من بلد عربي، وكان العصف الأهم وما زال، ذاك الذي تصفر رياحه في الديار السورية. لقد عاد اللبنانيون لبنانيين أكثر، عندما صار كل بلد عربي محلياً أكثر، وإذ تختلف نسخة كل عودة محلية إلى محليتها، فإن الرجوع اللبناني إلى أصل التكوين، يختزن في طياته معضلة نشوئه الأصلية، ومعضلات تطوره الذي ظل مسدود الآفاق التطورية والتطويرية، ويضيف إلى الذات اللبنانية المأزومة تداعيات الذوات العربية التي انفجرت أزماتها، وتظل الأزمة السورية الشقيقة، الأقرب إلى تفاعل اللبنانيين معها وإلى الانفعال بما يصدر عنها من سياسات.
ضمن هذا السياق الذي تداعت معطياته القديمة وتكاثرت معطياته الجديدة، تبدو المعارك في سورية معارك لبنانية، وضمن هذه الحرب، تحتل الموقعة الحلبية منزلة بارزة، فتعلق على نتائجها آمال المراهنين على الفوز، من موقع المساهمة المباشرة فيها، دعماً للنظام سياسياً وقتالياً، أو دعماً للمعارضة بالتمنيات والآمال، وبعض المساهمات الميدانية الفردية المعزولة.
ولأن الداخل اللبناني متصل بالداخل السوري إلى هذا الحد تصير الهزيمة هناك، أي في سورية، هزيمة هنا، أي في لبنان، ويكون الفوز بنجاح ما في الديار البعيدة، عامل توظيف مطلوباً ومستساغاً في الديار المحلية، مما يجوز معه القول أن كل طرف لبناني يريد هزيمة الطرف الآخر خارج الساحة المحلية، وأن كل فريق يطلب تفوقاً في معركة خارجية، هي خارجية فقط بالمعنى الجغرافي، لكنها داخلية على كل المعاني التكوينية اللبنانية، وعلى كل معاني التوازنات الأهلية والسياسية ضمن هذا التكوين.
وفقاً لذلك، لم تعد جغرافيا حلب صندوق بريد لبنانياً، بل هي الصندوق والرسالة وساعي البريد، ولأن النظام المستبد هناك هو الذي أسس بسياساته للحرب الأهلية، ولتعريض سورية الوطن لشتى الأخطار، فإن طلب الهزيمة لهذا النظام يظل هو الأمل المرتجى. في الوقت ذاته، ولأن النظام أنتج نسخ معارضته التي تشبهه، استبداداً وتخلفاً، فإن طلب الهزيمة لهذه المعارضة هو الرجاء المنشود.
هزيمتان سوريتان، توازيهما هزيمة للفريق الذي دعم النظام من اللبنانيين، وخيبة أمل للذين جعلوا من المعارضة السورية الحالية، حصان سباقهم إلى الغنيمة اللبنانية الداخلية. توازن الهزيمة أو واقع عدم الحسم، ربما دفع السوريين إلى ابتكار تهدئة – تسوية، وربما أتاح عناصر دفعٍ للبنانيين إلى توازن التسوية أيضاً، دفعٌ يأتي أولاً من قبل المتدخل الدولي، ومن جانب صاحب المشروع الإقليمي الذي جعل فريقاً أهلياً لبنانياً «كتيبة» مقاتلة في سورية، ومن قبل الأطراف الآخرين، من العرب وسواهم، الذين زيَّنوا لبعض الفرقاء اللبنانيين محاسن الجلوس على مقاعد الانتظار… انتظارٌ ملأه كل طالبي الفردوس، من خلال المرور بإذكاء نار جحيم المقتلة السورية.
الحياة – أحمد جابر