لما كان لأي ثورة أو حركة تحرر وطني تنشب في وجه الظلم والطغيان أثمان باهظة وتضحيات عظام وآثار سلبية تنعكس على الحياة بكامل نواحيها؛ لكن يبقى العلم هو ذاك المحراب المقدس -و الذي يسعى الطغاة دائما لإطفاء جذوته – خطا أحمر فمهما تردت الأوضاع الإنسانية؛ نجد أن الناس تتخلى ربما عن لقمة طعامها لكن يبقى هاجسها حصول أبنائها على قدر من التعليم مهما كان بسيطا، ومهما كانت الوسائل وبلغت المخاطر.
مرارا وتكرارا ناقشنا وتحدثنا كما فعل الكثير غيرنا؛ الأزمة الخانقة التي يعيشها قطاع التعليم في سوريا منذ اندلاع أحداث الثورة، ولم تعد الأسباب خافية على أحد لذلك لاحاجة لذكرها الآن، وفي هذا الصدد تدهور المستوى العلمي والمعرفي بشكل كبير لأبناء سوريا خاصة في المناطق المشتعلة، وفقد أبناؤها التواصل مع الكتاب المدرسي والمعلم أيضا.
والحل كان موجودا، فأصبحت خيام النزوح وأقبية الاختباء فرصة مناسبة للتعليم لكن من نوع آخر، وهو تعليم أحكام التجويد ودروس تحفيظ القرآن، والتي لطالما هونت على الأطفال أزيز الطائرات وهدير المدافع وأشعرتهم بالأمان والطمأنينة.
في الحقيقة إن فكرة تعليم الأطفال بسن المدارس واللجوء إليها أيام الأزمات القوية وفق هذا النموذج، راقت للمجتمع الأهلي في المناطق المحررة خاصة، ومع غياب الدور الفعلي والمتواصل للمدرسة، فتحت المساجد أبوابها وبدأت باستقبال الأطفال دون قيد أو شرط، وانتشرت الحلقات القديمة وأصوات التلاوة العطرة مجددا معيدة إلى الذاكرة تاريخ الأجداد، وأخذت المنافسة تشتعل بين الطلاب للتميز والتفوق وتقديم الأفضل. ولاننس هنا دور الجمعيات الخيرية والطيبين من أهل الجود والكرم الذين مدوا يد العون لهذه التجارب؛ فقدموا الهدايا والدعم للطلاب لإثارتهم وتحفيزهم كما أنهم تبرعوا بدفع مرتبات رمزية للمدرسين المشرفين والقائمين على هذه العملية.
ولأن القرآن الكريم وهو منبع اللغة العربية وأبا البلاغة والفصاحة ومصدر القصص والعبر، فقد حمت المواظبة على تدريسه وتحفيظه الطلاب المحرومين من العلم الدنيوي من الضياع وضمنت لهم تقديم قدر ممتاز من الرفد والتواصل مع دنيا التعليم.
والآن وبعد قرابة 7 سنوات من عمر الثورة، انتشرت المعاهد الخاصة بتعليم وتحفيظ القرآن بشكل كبير؛ فلا تكاد يخلو شارع من المدن والبلدات والقرى السورية المحررة من مثل تلك المعاهد حتى المخيمات وأماكن اللجوء لم تخلو منها، خاصة مع فترة الصيف، وبدلا من أن يمضي الأطفال وقتهم غارقين في براثن الملل وضياع الشارع وتشرده والتفكير بكوارث الحرب وتداعيتها، أصبح لديه واقع جديد وجميل يمضي فيه وقتا ممتعا بين التعليم وتنشيط العقل والتحفيظ وتنشيط الذاكرة.
والملفت بأن الأمر لم يتوقف عند حد طلاب المدارس والأطفال ؛ بل تعداهم لينتقل لعالم ربات المنازل اللواتي أيضا خصصت لهن أوقات محددة لإشغال وقت الفراغ بمايفيد وينفع وتكون بذلك المنازل في المساء حافلة عامرة بتبادل الخبرات والتدريبات على الحفظ بين الأبناء وأمهاتهم.
وخلاصة القول :أن هذا الأمر إن دل على شئ يدل على الرغبة الشديدة في مواجهة عواصف الجهل التي تسعى القوى المعادية لهذا الشعب العريق مجابهته بها وإخماد ثورته من خلال الضغط على سبيل المعيشة المختلفة والتعليم أحدها.
وأخيرا لايسعنا في الختام إلا أن نقدم الشكر الجزيل لكل من ساهم في إنجاح ودعم هكذا تجارب ساعدت أبناءنا ومن خلفهم مجتمعنا على الوقوف مجددا على قدميه ومتابعة طريق العلم الشاق والطويل.
المركز الصحفي السوري _ شاديا الراعي