يجب أن يُنظر إلى الأعمال الروسية في سورية ضمن سياق عالمي شامل، ذلك أن موسكو تطاولت على الحق الذي تفردت به الولايات المتحدة خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية (…) وهو الحق في استخدام القوة لفرض النظام الدولي، بمعنى آخر على وظيفة « الدركي العالمي».
كان يُقصد بـ «العالم الأحادي القطب»، أن الحروب «باسم السلام»، أي تلك الحروب غير المرتبطة بتحقيق الأهداف الخاصة المحددة والواضحة، تقودها الولايات المتحدة فقط بدعم من حلفائها، وها هي موسكو من خلال بدئها العملية العسكرية في سورية، غيّرت تموضع القوى وآفاق حل النزاعات الدولية المهمة، علماً أن ذلك لا يوحي لها بفائدة عملية، فهذه صلاحية الرابطة العسكرية – السياسية العليا القادرة على فرض أجندتها.
وقد يُنهي النزاع في سورية عصر الموقف «الإنساني – الأيديولوجي» من حلّ النزاعات المحلية. فحتى الآونة الأخيرة كان العنصر المهم للنقاش في شأن النزاعات الداخلية يتمثّل في توجيه الاتهامات إلى القادة بارتكاب جرائم ضد شعوبهم وقمع الاحتجاجات بعنف وغير ذلك، فالقائد الذي لطّخ سمعته بمثل هذا السلوك كان يصنّف ضمن فئة «الفاقدين للشرعية»، بالتالي يصبح الحوار معه غير ضروري وغير مسموح به، وقد عبر صدام حسين ومعمر القذافي هذا الطريق، وكان على بشار الأسد أن يكرر ذلك. أما الآن، فيبدو أن المكّون الإنساني يتراجع مجدداً ليخلي مكانه للموقف الواقعي، فالتقسيم بالأسود والأبيض إلى أشخاص أخيار وأشرار يقود إلى طريق مسدود، ولا بد من المساومة مع الجميع.
مثَّل لقاء فيينا مرحلة جديدة مبدئياً بالنسبة إلى سورية، فهذه الحالة الثانية (بعد الماراثون «النووي» الإيراني) من المحادثات المفتوحة على نهايات شتى، أي عندما يتحدّد إطار القرارات خلال النقاش لا أن يكون معداً مسبقاً، بالتالي لا يبقى للمشاركين سوى البحث عن طريق الوصول إلى النهاية المطلوبة. أما كيف ستكون سورية بعد الحرب، فهذا ما لا يعرفه أحد، وهذا جيد في الحالة الراهنة، فمن المفهوم أنه لا توجد أي ضمانات للنجاح، لكن من الناحية النظرية فإن هذا الطريق أكثر صحة، ومن المؤسف أن النزاع الروسي – التركي الحاد الذي تسبّبت به حادثة إسقاط الطائرة الروسية، جاء ضربة للعملية التي أخذت ترتسم معالمها أخيراً.
لا تمتلك روسيا الرغبة ولا الموارد من أجل خوض حملة طويلة الأمد في سورية، كما أن موسكو في حاجة إلى الحل السياسي مثلها مثل البقية، وفي الوقت الراهن يجب أن يتضمن هذا الحل حقيقة الوجود العسكري الروسي الواضح في سورية.
تقف روسيا أمام معادلة صعبة، إذ يترتب عليها أولاً: ضمان وجودها الجيوسياسي في سورية في المستقبل، بغض النظر عن بنية السلطة هناك، وثانياً: عدم تقويض العلاقات مع إيران، الشريك الإقليمي المهم جداً في المستقبل. فالحفاظ على النظام الحالي في سورية أمر مهم جداً بالنسبة الى طهران، فهي تعتقد أن أي تغيير سيصبح كارثياً بالنسبة الى السيطرة الإيرانية في سورية، أما الملحمة السورية فتكاد تكون الموضوع الوحيد الذي يعزز العلاقات مع موسكو، أما في الاتجاهات الأخرى فتنظر إيران إلى روسيا بعين الشك. ثالثاً: ألا تتحول روسيا إلى قوة عظمى تخدم مصالح إيران الإقليمية.
على أية حال، تصاعد الأحداث والتطور السريع لنطاقها خلال الأسابيع الأخيرة، يدفعان باتجاه استنتاج آخر مخيّب للآمال، فاليوم لم يعد الحديث يدور حول سورية، وإنما حول مستقبل المنطقة بكاملها، بالتالي فإن التسوية السورية غير ممكنة من دون إعادة بناء سياسية للشرق الأوسط، وهذه مهمة أكبر حجماً، ومحفوفة بأخطار كثيرة، لكن من الواضح أن روسيا اليوم لا تهاب هذه المهمة.