لم يدرْ بخلد المواطن السوري أبو هيثم من بلدة الزبداني، أنه سيأتي يوم ويموت فيه من الجوع، خصوصاً أنه كان ميسور الحال، يملك أرضاً في بلدته الواقعة شمال غرب دمشق بـ 45 كيلو مترا، والتي كانت مقصداً للسياح ولمحبي الطبيعة البكر.
محمد علي خريطة (أبو هيثم) الذي نزح إلى بلدة مضايا القريبة من الزبداني نجا بنفسه وأهله من القصف بالبراميل المتفجرة، قبل أن يفارق الحياة جوعاً منذ أيام، لأنه لم يستطع تأمين كيلو من الأرز و5 كيلو من حليب الأطفال، مقابل سيارة أحد أقاربه.
ليس أبو هيثم الأول، ولن يكون الأخير، الذي يقضي تحت وطأة الجوع في بلدة مضايا، التي نزح إليها أغلب أهالي الزبداني؛ الصور الآتية من هناك صادمة وكارثية، تؤكد عمق مأساة أكثر من 44 ألف مدني، وجدوا أنفسهم منذ أكثر من ستة أشهر أسرى حصار مزدوج من قبل قوات النظام وحزب الله اللبناني بعد فشل الطرفين المتحالفين الذريع في اقتحام الزبداني.
الصور والحكايات الآتية من هناك، تؤكد أنهما اتبعا سياسة الأرض المحروقة، ودمّرا أجمل المدن السياحية السورية، إلى حدّ أن خبراء قالوا إن ما حدث في الزبداني يعادل “تأثير قنبلة نووية”.
يقول قيادي من حركة “أحرار الشام” خرج من الزبداني في الصفقة الأخيرة التي تمت بين المعارضة السورية المسلحة والنظام، إن المجاعة الشديدة أجبرت سكان تلك المناطق على أكل القطط والحشائش والقمامة، مؤكداً في تصريح إعلامي أنه شاهد حالات عديدة من الأطفال والنساء والمسنين وهم يموتون بعدما تحولت أجسادهم إلى ما يشبه الهياكل البشرية بسبب الجوع.
ومن قلب مضايا حيث الجوع والبرد، تواصل “العربي الجديد” مع الناشط الإعلامي عين جابر الذي بدأ حديثه بالقول: “الوضع في المدينة كارثي ومأساوي. دفن اليوم (الأحد) شهيد آخر من شهداء الجوع والبرد”، مشيراً إلى ازدياد حالات الإغماء بين المدنيين بسبب الجوع الذي بدأ ينهش أجساد المحاصرين، إذ وصلت إلى المشافي الميدانية أكثر من 150 حالة إغماء.
ويلفت جابر إلى أن العائلات تأكل أوراق الشجر، كما يقوم عديدون بذبح القطط لإطعام أطفالهم الذين يتضورون جوعاً، وسط صمت دولي وصفه بـ”المشين بحق الإنسانية جمعاء”. ويبيّن أن هناك خمسين حالة وفاة بسبب الجوع، أو بسبب الألغام الأرضية التي زرعتها قوات النظام وعناصر حزب الله حول البلدة لتمنع خروج أحد من المحاصرين.
من جهته، يقول المرصد السوري لحقوق الإنسان إن “عناصر حزب الله وقوات نظام بشار الأسد زرعوا مئات الألغام في محيط مدينة مضايا، بالإضافة إلى الأسلاك الشائكة والشباك المرتفعة، لمنع أي عملية تسلل من وإلى المدينة”، مشيراً إلى “وجود نحو 1200 حالة مرضية مزمنة، وأكثر من 300 طفل يعانون من سوء تغذية وأمراض مختلفة، وسط نقص حاد في المواد الغذائية والمعيشية والطبية، بحيث وصل سعر كيلوغرام الأرز أو السكر إلى ما يقارب 36 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل نحو 90 دولاراً”.
ووثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 17 شخصاً بينهم أطفال بسبب الجوع وانفجار ألغام أو إصابتهم برصاص قناصة أثناء محاولات بعضهم تأمين الغذاء أو جمع حشائش عند أطراف المدينة.
وتدفع مدن الزبداني ومضايا وبلودان ثمن موقعها الاستراتيجي بالنسبة لحزب الله الذي يطمح لضم هذه المدن السورية لمناطق نفوذه؛ فهذه البلدات تقع على الحدود السورية اللبنانية، وتشكل امتداداً لمناطق لبنانية يقطنها موالون للحزب الذي يسعى من خلال سيطرته على هذه المدن إلى تأمين السيطرة الكاملة على منطقة القلمون المحاذية للحدود السورية اللبنانية.
مع بداية شهر يونيو/ تموز الماضي، بدأت قوات النظام وحزب الله ومليشيات أخرى مساندة لها حملة عسكرية شرسة على مدينة الزبداني، ألقت خلالها مقاتلات النظام مئات البراميل المتفجرة على المدينة. غير أن الحملة جوبهت بمقاومة قوية من أبناء المدينة الذين استطاعوا الصمود نحو 87 يوماً، محققين انتصارات على القوات المهاجمة التي خسرت عشرات العناصر.
بموازاة ذلك، بدأت فصائل المعارضة السورية حملة مماثلة على بلدتي كفريا والفوعة المواليتين للنظام والحزب، بالقرب من مدينة إدلب شمال سورية للضغط على قوات النظام وحزب الله وفك الحصار عن الزبداني ومحيطها، وانتهى الضغط المتبادل بتوقيع اتفاق في 24 سبتمبر/أيلول الماضي، بعد مفاوضات جرت في تركيا بين ممثلين عن المعارضة وموفد إيراني يمثل النظام السوري، أفضت إلى وقف لإطلاق النار، على أن يتم نقل جرحى من الزبداني إلى تركيا، ونقل جرحى من الفوعة وكفريا إلى دمشق عبر تركيا ولبنان، وإدخال مساعدات غذائية.
وقد تعثر تنفيذ الاتفاق إلى أن تم نقل الجرحى أواخر الشهر الأخير من العام الماضي، لكن النظام لم يف بتعهداته، إذا لا يزال يشدد الحصار على بلدة مضايا.
وجوبه الاتفاق بموجة انتقاد كبرى من الناشطين السوريين وخاصة أن النظام ضرب بعرض الحائط ما التزم به فنفذ من بنوده ما يناسبه حتى بدأت تتكشف مأساة المحاصرين في مضايا، حيث اعتبر المرصد السوري لحقوق الإنسان، أن “مضايا مجوّعة من أجل كفريا والفوعة”.
وتوعد المنسق العام لـ”جيش الفتح” في المعارضة السورية المسلحة الشيخ عبد الله المحيسني، بمعاودة الحملة العسكرية على بلدتي كفريا والفوعة في حال لم يتم فك الحصار عن مضايا والزبداني. وأكد المحيسني الذي لعب دوراً في إتمام اتفاق هدنة “الزبداني – كفريا والفوعة” في سلسلة تغريدات على “تويتر” أن “جيش الفتح جهز عشرات الاستشهاديين للدخول إلى كفريا والفوعة ومحوها عن الوجود، إن لم يتم إدخال المواد الغذائية لأهل مضايا”.
من جهته، قال الناشط السياسي ورئيس لجنة التحكيم في غوطة دمشق الشرقية نزار الصمادي لـ”العربي الجديد”، إن ريف دمشق هو طوق للعاصمة، وامتداد لها، لذلك أعطى المجتمع الدولي لبشار الأسد الضوء الأخضر من أجل إذلال هذا الريف حتى يقبل بالعودة إلى حضن الأسد وبشروط مذلة، مشيراً إلى أنه “من أجل ذلك يتم الضغط على الحاضنة الشعبية للجيش للحر والفصائل لإجبارهم على قبول الحل الاستسلامي، وهو إفراغ الريف من المعارضة المسلحة، إما بضربها وقتلها، أو قبولها بالخروج الى الشمال السوري”.
وأشار الصمادي، الموجود في ريف دمشق، إلى أن “النظام وجد أن سياسة التجويع أفضل وسيلة للتركيع والرضوخ، إضافة إلى سياسة القتل، والتدمير، فطبقها في مدن وبلدات ريف دمشق حتى يصل إلى مراده غير مكترث بحياة مئات آلاف المدنيين الذين لا يزالون في هذا الريف المنكوب”.
وأطلق نشطاء حملات على مواقع التواصل الاجتماعي داعين المجتمع الدولي إلى التدخل لإنقاذ آلاف المحاصرين في مضايا وفي بلدة بقين القريبة منها، وطالب الناشط عين جابر في حديثه مع “العربي الجديد” “هذا المجتمع بعدم الاكتفاء بالحزن، وذرف الدموع على الأطفال الذين يموتون جوعاً وبرداً، وأن يعمل على وضع حد لنظام لم يدع وسيلة قتل، إلا واستخدمها لإركاع السوريين حتى القتل جوعاً وبرداً”.
العربي الجديد