أثار مسرح الشمس في باريس حفيظة النقاد عندما قرر عدم التراجع عن عرض مسرحية “كاناتا-الحلقة الأولى- الجدل”، بعد أن ألغي عرضها في كندا العام الماضي، لتكون المسرحيّة الأولى منذ 54 عاما التي تقام على خشبة مسرح الشمس الرئيسية وتؤديها فرقته دون أن تكون الفرنسية أريان منوشكين المخرجة، إذ يتولى إخراج العرض الكندي روبير لوباج بالاتفاق مع منوشكين في تحدّ للانتقادات التي واجهها العرض، الذي يدّعي تسليط الضوء على معاناة السكان الأصليين في كندا، أولئك الذين أبادهم واستعمرهم الأوروبي الأبيض، والذي يظهر على الخشبة كباحث عن معنى لحياته، وضحية مصادرة حقه في التعبير الفني عن تعاطفه مع مآسي السكان الأصلين، بحجة أنه لم يختبرها.
يشير اسم المسرحية “كاناتا” إلى كندا، والتي تعني القرية باللغة الأصلية، ومن هذه الإحالة يتحرك زمن المسرحية في مستويين، الأول يعيدنا إلى زمن الاستعمار وكيف مُسحت قرى السكان الأصليين وقتلوا وسرق أطفالهم ووضعوا في محميات خاصة.
تبدأ المسرحيّة في متحف، تقوم فيه خبيرة بترميم اللوحات بعرض ما لديها من أعمال فنية عن تاريخ الاستعمار على أنثروبولوجي يريد أن يقيم معرضا عن السكان الأصليين في أميركا، لنتكشف أثناء ذلك عدم درايته بتاريخهم وتاريخ المنطقة
والزمن الثاني هو الحاليّ، الذي تحوّل فيه السكان الأصليون إما إلى مدمني مخدرات وإما إلى مشرديّن وإما إلى ناجين من القاع وإما إلى صور في لوحات، رسمها “أبيض” يصوّر فيها الساكن الأصلي بالطريقة التي يريد، هذا الأبيض ذاته يظهر في مُنتجاته الثقافية متعاطفا مع المأساة، وله الحق في أن يحوّلها مع تاريخها إلى عمل فنيّ ينتمي إلى المتاحف، يحمل داخله جماليّا ورمزيّا حكايات القمع والقتل.
تبدأ المسرحيّة في متحف، تقوم فيه خبيرة بترميم اللوحات بعرض ما لديها من أعمال فنية عن تاريخ الاستعمار على أنثروبولوجي يريد أن يقيم معرضا عن السكان الأصليين في أميركا، لنتكشف أثناء ذلك عدم درايته بتاريخهم وتاريخ المنطقة، واهتمامه فقط بها، لننتقل بعدها إلى شارع هايستنغ في فانكوفر، المليء بالمدمنين والمشردين وبائعات الهوى من السكان الأصليين، في ذات الوقت نتعرّف على ميراندا وفرديناند اللذين قدما من فرنسا لتحقيق أحلامهما في فانكوفر، فميراندا تريد أن ترسم وتقيم معرضاً فنياً، وفرديناند يريد أن يمتهن التمثيل وينتقل إلى هوليوود.
الحلم والمخدرات كمساحة للخلاص الروحي
الأداء المتفاوت وغير المقنع الذي قدمه الممثلون لم يكن متوقعاً، كون العرض نتاج تعاون اثنين من أهم المسرحيين في العالم، لكن ما يُمتّعنا أثناء المشاهدة هو مهارة الانتقال بين الأماكن، إّذ تتغيّر الخشبة وديكورها أمامنا بإيقاع مضبوط وحيويّ، لا يقطع تسلسل العرض الذي يستمر لساعتين ونصف الساعة دون أي استراحة، وتتداخل فيه تقنيات الإسقاط الضوئي مع الديكور متعدّد الوظائف، إلى جانب الحركات البهلوانية التي نراها في واحد من المشاهد، الذي ينقلب فيه كل شيء رأسا على عقب، في إشارة إلى عوالم الأحلام والمخدرات التي تكتشفها ميراندا.
لفهم حكاية المسرحيّة المتخيّلة والجدل الواقعي الذي أثارته، لا بد أن نتتبع العلاقة بين الفن كشكل من أشكال تمثيل التاريخ، وبين أصوات الأقليات التي تظهر في هذه التمثيلات كضحايا أو كائنات فيتشيّة، في ذات الوقت الأخذ بالاعتبار تاريخ القمع الثقافي والحرمان من حق الظهور الذين يتعرضون له، إذ تتعرف ميراندا على تانيا، واحدة من السكان الأصليات، اللاتي يتسكعن في شارع هايستنغ، هي ابنة مرمّمة اللوحات التي نراها في البداية، ومدمنة مخدرات وبائعة هوى، يخطفها قاتل متسلسل ويقتلها ويطعمها للخنازير في مزرعته، في إشارة للقاتل الحقيقي روبرت بيكتون، والذي يعتبر جزءا من حكاية طويلة، مرتبطة بالعنف الذي تتعرض له النساء من السكان الأصليين، واللاتي تشير الأرقام والإحصائيات إلى أنهن أعلى فئة تتعرّض للخطف والقتل في الأميركيتين.
تتحول تانيا إلى مشروع ميراندا الشخصيّ بعد أن تُقتل، وتقرر ميراندا رسمها وباقي الضحايا ضمن مجموعة من البورتريهات التي تريدها أن تكون باكورة أعمالها، وأساس معرضها الفردي الأول، وهنا يبدأ الصراع داخل المسرحية، إذ لم تطلب ميراندا إذنا من أُسر القتيلات قبل أن ترسمهن، وهذا ما يحيلنا إلى الصراع الواقعي، إذ وجد السكان الأصليون في كندا أن العرض يصادر أصواتهم، ويجعل مأساتهم مستباحة لأجل التمثيل الفني، خصوصا أن فريق العرض لا يحوي أي واحد منهم، وهذا يعيدنا إلى لوباج ومنوشكين، اللذين رأيا أن إيقاف تمويل العرض في كندا نوعا من الرقابة التي لا بد من الاحتجاج عليها، وأكدا أنه من حق الجميع وخصوصا الفنانين أن يرووا حكاياتهم وانطباعاتهم عن الآخر ولو كانوا في موقع قوة تاريخيا.
المستعمر الأبيض يعيد تكوين العالم وينفي مكوناته الأصلية
بالعودة إلى العرض، نكتشف أن ميراندا تدافع عن حقها بـ”التعبير عن مشاعرها” والانخراط في مأساة الفتيات اللاتي قُتلن، بل وترى أن الضحايا ليسوا إلا مُحتكرين للحكايات التي لا يجوز المساس بها أو سردها إلا من قبلهم، حتى لو كانت المأساة تمس الفنان وتؤثر به.
الجدل الذي يدور ضمن المسرحية وعن حقّ الفنانة بتصوير ورسم من تريد، حصل ذاته في الواقع، وكان رد لوباج بسيطا وساذجا، فالمسرح برأيه، منذ بدايته، قائم على أساس أن “نلعب دور شخص آخر”، ما يعني أنه لا يجوز مصادرة حق أحد بتأدية ما يريد، لكن الدفاع هنا عن حرية اللعب والتمثيل مرتبطة بتاريخ طويل من التهميش وغياب الظهور الثقافي والفني للسكان الأصليين، وتحويل حكاياتهم إلى “نُسخ بيضاء”، يظهر فيها الأبيض كأنه مغامر يكتشف ذاته ويطهرها عبر مأساة الآخرين، دون أي اعتبار لأصوات السكان الأصليين وحاجتهم لسرد حكاياتهم بأصواتهم وجعلها مرئيّة.
التساؤلات “المسرحيّة” و”الواقعية” المُثارة مرتبطة بالطريقة التي يُنظر فيها للـ”فن”، كما في اللوحة في بداية المسرحية، إذ لا يكفي معرفة من رسم اللوحة ومن هم الموجودون فيها وما هو تاريخهم، بل لا بد من طرح التساؤلات المرتبطة بتاريخية الفن، فلماذا رسم الأميركي الأصلي كموضوع فيتشي؟ كيف انتقلت هذه الصورة إلى المخيّلة الشعبية وأثرت بالقرار السياسي؟ وكيف ساهم تراكم الحكايات البيضاء بتهميش فئة من الضحايا، وتحويل الاعتراف بحقوقهم وحكاياتهم إلى امتياز “أبيض” أو خلاص رومانسي للمنتصرين تحت غطاء حرية الفن واللعب، التي هي حقوق مضمونة، لكن هل هي أخلاقية وعادلة؟ أي هل يمكن استبدال العدالة باللعب الفني والحكائي؟
نقلا عن صحيفة العرب