اتسع الجرح وزاد الأنين ،تآكلت الدموع أمام لحظات وداع مؤلمة بكلمات نداء تعالت مرددة “زوجي مامات زوجي شهيد”
لتنفجر أصوات البكاء وتتراسل دموع الشوق قبل الفراق لتطبع ديمة قبلة الوداع على جبين عمر “”مع السلامة يا روحي””
آلمتنا هذه الحرب واعتصرت قلوبنا فكم من نساء فقدن أزواجهن وكم من أطفال حرموا من أبائهم ، ففي دراسة أجرتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان بأن نسبة النساء اللواتي فقدن أزواجهن وصل لحدود 1,1 مليون خارج سورية وبأكثر من 2,1 مليون داخلها حيث زادت النسبة فمن بين كل 6 نساء هناك أرملة واحدة على الأقل …ومثال ذلك… ديمة…
ديمة شابة لايتجاوز عمرها ٢٤ عاماً مارست عملها التعليمي سنة ٢٠٠٤ م ..وهي مثال للمرأة الكادحة والصبورة فقد كانت إلى جانب عملها تمارس مهنة الخياطة…تزوجت ديمة من عمر أستاذ الفنون الذي يكبرها ب٤ سنوات، الذي مالبث أن ترك مهنة التدريس لقلة مردودها فعمل في مجال البناء و رغم ذلك لم يجن المال الكافي معتمداً في ذلك على مساعدة ديمة بماتتقاضاه من أجر التدريس، ليعيشا وضعاً مادياً متوسطاً وخصوصاً بعدم وجود الأطفال… فقد أثار هذا الموضوع قلق ديمة وكثيراً ماوقعت على مسامعها كلمات قاسية كانت تمزق أواصر روحها وتجرح مشاعرها لتأخرها في الإنجاب…. لتبدأ رحلة من القهر والعذاب مع آلامها وتوقها لرؤية طفل بين يديها يُجمِّل حياتها ويُسْكت المحيطين بها وألفاظهم الجارحة.
تتوالى السنوات تتنقل خلالها ديمة مع زوجها عمر من طبيب لآخر بحلم يسكن قلبيهما ومآقي تذرف دموع المرارة والأمل معاً، لعل وعسى أن يُرزقا بطفل يُملي عليهما حياتهماويشبع عاطفة ديمة الممزقة ويُجلي الهموم والأرق عن روحها ومشاعرها التائهة.. لكن دون فائدة… لتبدأ أحداث الثورة فكثيراً ماكانت القرية تتعرض للقصف ومرمى لرصاص القناصين… حيث استقرت إحداها في صدر عمر أثناء عودته من عمله ليفارق الحياة على إثرها….
سال دم عمر على الثرى فتعالت الأصوات مرددة”انقتل عمل ياعالم مات عمر ياناس” ليعلو نحيب ديمة وبكاؤها لتردد كلماتها الحزينة “عمر مامات عمر شهيد” فقد أمات رحيل عمر كل الحياة في عينيها فالروح تائهة والمواجع تتقلب والذكريات تعصف بمخيلتها لتبقى ديمة وحيدة بعالم مشّوه وفراق أبدي مرير عائدة إلى أهلها حاملة ذكرى سنوات تتأرجح أحداثها بين الحلوة والمرّة …مثقلة بحقائب الهوان التي قصمت ظهرها وأردتها متعبة ومعذبة…بعد عدة سنوات من وفاة عمر حاولت ديمة البدء بحياة زوجية جديدة تخفف عنها ولو جزءاً من معاناة الوحدة ووجع الحرب مع الاحتفاظ بأوجاع مغلفة بين طيات القلوب..
وفي قصة أخرى وألم آخر… اغتيل زوجها بعشرات الطلقات توزعت في جميع أنحاء جسمه أثناء قيادته لسيارته ليسقط خبر استشهاد مؤيد(أبو علاء)كاللهيب أحرق قلب نجود(أم علاء).
عمل الأستاذ مؤيد منصور خريج الأدب الإنكليزي ومن مواليد قرية دير حسان عام ١٩٧٢ ميلادي رئيسا لبلدية القرية ،انشق عن النظام وعمل كرئيس للمجلس الثوري فيها لمدة عام حاول خلاله استقدام الكثير من المنظمات الإنسانية والإغاثية لمساعدة الناس وخصوصاً النازحين منهم.
ولطالما شهدت القرية اشتباكات بين الفصائل المعارضة ليُعيَّن مسؤولاً عن أمور القرية بأكملها وتطويرها بكافة المجالات… فيكرث حياته ويعمل جاهداً لأجل خدمة الناس والثورة… تعرض مؤيد(أبو علاء) لأولى محاولات الاغتيال عند غروب الشمس حيث كانت سيارته مركونة أمام منزله ليتم إطلاق النار عليها معتقدين وجوده بداخلها، ليخرج مسرعاً على إثر سماع صوت الرصاص فيخبره جيرانه بأن شخصين ملثمين كانا يستقلا دراجة نارية قاما بإطلاق النار و اتجها خارج البلدة…تلقى بعدها تهديدات كثيرة فبدأ يأخذ حذره ويراقب منزله ويفتش سيارته قبل قيادتها ثم قام بوصلها بجهاز تحكم كنوع من الحماية …
وفي محاولة ثانية لاغتياله تم زرع عبوة ناسفة أسفل سيارته، ودع (أبو علاء) أطفاله وقاد سيارته بينما كانت زوجته المعلمة(نجود )في المدرسة لينتشر خبر وجود سيارة مفخخة فتخرج مسرعة تتقصى الأمر لتتفاجأ بأن السيارة المقصودة هي سيارة زوجها مؤيد وقد أخبرهم الخبير بوجود مشكلة فنية بالصاعق الموصول بالعبوة ولهذا لم تنفجر….لتنقضي مدة ثلاثة أشهر وكأنها فترة أمان تعطى ل(أبو علاء) ليتعرض بعدها لمحاولة اغتيال ثالثة وذلك أثناء عودته ليلاً برفقة صديقه من دير حسان بعد تلبية دعوة من صديقه(أبو عزيز ) وهو شيخ إحدى العشائر بأبي ظهور، ليصادف سيارة سوداء من نوع كيا ريو يستقلها ثلاثة أشخاص ملثمون أطلقوا رصاصاً كثيفاً ليصاب بقدمه ويده وينهار صديقه من هول الصدمة لتتجه السيارة هاربة باتجاه الطريق العام القريب من كفرلوسين.. يتحدى أبو علاء ألمه فيقود سيارته مسعفاً نفسه وهو بحالة يرثى لها ورغم إصابته البليغة ليصل مشفى أورينت في مدينة أطمة… لتتفاجأ زوجته (أم علاء) عائداً إلى منزله ودماؤه تملأ ثيابه ومضمداً بالشاش والقطن …بعد إصابته هذه أرسل بطلبه الشيخ (توفيق) وهو أحد قادة فصائل الثوار ليخبره بتعيينه مستشاراً للعلاقات الخارجية لفصيله باعتباره متقناً لللغة الإنكليزية وتم تجهيز مكتب وسيارة خاصة به في تركيا .
وبعد إلحاح كبير من زوجته وأهله قرر السفر إلى ألمانيا ولكن مالبث أن تراجع عن هذه الفكرة قائلاً بأنه لن يترك بلده وخصوصاً أنه قد ذاق مرارة الغربة مدة ثلاثة سنوات في دولة الإمارات ولن يعيد تلك التجربة مرة أخرى….
وذات مساء معتم كئيب عاد(مؤيد) أبو علاء إلى منزله ليسأل أطفاله عن أمهم(نجود)فأجابوه بأنها نائمة ليتبعه بسؤال أخر هل من أحد سأل عني ليقولوا له بأن شخصاً من مدينة الدانا سأل عنه فاتصل به وأخبره بأنه ذاهب إليه…وماهي إلا بضع دقائق بعد خروجه حتى سُمِعَ إطلاق نار كثيف تستفيق عليه نجود غير مبالية فإطلاق الرصاص أصبح عادة فتعود لنومها …لتأتي إحدى قريباتها وتوقظها مستفسرة عن هذا الإطلاق القوي للرصاص لتستفيق(أم علاء)و يراودها الفضول لتمشي عدة خطوات خارج منزلها متجهة تسأل عن سبب هذا الصوت القوي فتصادف أخاها و تسأله عن سبب إطلاق الرصاص وعن زوجها مؤيد ليجيبها بعد إلحاح منها بأنه تعرض لإطلاق نار داخل سيارته فهرعت نجود مسرعة هائمة على وجهها بقلب خائف على مؤيد ولسان يردد بالدعاء بأن يكون شريك حياتها ونصفها الآخر(أبو علاء)بخير و على قيد الحياة…لتصل إلى سيارته بعد تجاوز حشود أناس كثيرة وتسألهم عنه ،ليجيبها الموجودون بأن سيارة أسعفته لتنظر إلى أبواب سيارته المفتوحة والدماء قد غطت مكان جلوس مؤيد لتتفحص الثقوب التي أحدثتها طلقات الرصاص ليظنها الناس بأنها فقدت عقلها ولكن …لا …فهي تأْمل في دواخل قلبها وروحها بأن تكون هذه الرصاصات بعيدة عن جسد مؤيد أو أنها أصابته إصابة خفيفة…
تعود أم علاء أدراجها حيث منزلها لتقف سيارة أمامه وتفتح الباب على مصراعيه لترى زوجها ملتفاً غارقاً بالدماء لتوقن هي وأطفالها وفاة زوجها واستشهاده ب ٤٩ رصاصة توزعت في أنحاء جسده …لم تنزل دموع نجود فالصدمة أماتت دموعها وأدمت قلبها وجعاً وكأنها تعيش كابوساً…. حتى الفجر حيث ودعت نجود(أم علاء) وأطفالها مؤيد لتتراسل دموعها المتألمة وتبكي بكاء مريراً فالمنزل بدون وجود (أبو علاء)معتماً و بائساً وبدون كلمة بابا أصبح بارداً…كان أبو علاء مثالاً للبطولة فقد ساعد الثوار بمعارك عديدة مثل معارك باب الهوى وحارم وجنديرس من نقلٍ للأسلحة والأغذية وإسعاف الجرحى…
شهداؤنا أعدادهم لاتحصى…هم غادروا حياتنا ولكنهم مازالوا يعيشون في قلوبنا…..
المركز الصحفي السوري _ خيرية حلاق