صامت لو تكلما, لفظ النار والدّما.. هذا حال مخيمات لجوء السوريين, ففي أعماقها تقبع قصص وحكايات, كل منها تحكي قصة شقاء وعذاب مستمر, ففيها المزق وقطع القماش التي اتخذها الهاربون مأوىً لهم.
منهم من هرب من بطش نظام الأسد الذي لم يرحم صغيراً منهم أو كبيراً, حاملين معهم ما تبقى من بيتهم المدمّر, ومنهم من ضمّ فلذات كبده ولاذ بهم تحت الأشجار خوفاً من ضربات الطيران التي لا ترحم ولا تهدأ صباح مساء.
كان مكتوباً عليهم إما اللجوء إلى الأمواج العاتية في البحار لإنقاذ ما تبقى من حياة أو اللجوء إلى المزق وقطع القماش.
بين الليل الطويل والنهار الشقي المُضني, استوقفتني في رحلتي بين المخيمات قصص عدة, إحداها كانت لأمّ أرملة, حيث قالت: “لم يبق لنا معيل, مات زوجي ولم يبق إلا بناتي الثلاث فإلى أين نذهب, هل نبقى تحت رحمة الطيران والقذائف, ولم يبق لدينا منزل يؤينا, أم ننزح إلى المخيمات في هذا البرد الشديد ؟؟!”.
هنا في المخيمات, حيث المنظمات الاغاثية لا ولن تستشعر العوز النفسي والجسدي للدفء وحتى القائمين عليها, فبعض الأغطية لن يردّ لهم دفء بيتهم المتهاوي, وبعض السلل الغذائية لن تعوّض عطاء الأب المفقود الذي تركهم ليصارعوا مرارة العيش الضنك.
هنا حيث الأزقة الطينية والأوحال, والشتاء يفتك برياحه الهوجاء بلا رحمة ولا هوادة, والكل يسأل: “ترى من المعني بهم ؟؟”.
قصص البؤس تتراءى لك في كل خيمة تزورها لتحكي لك نوعاً من الصراع على الحياة, فإما العيش بلا أمن ولا أمان في بلدانهم, أو أن يرحلوا ليسكنوا بلاداً مسلوبة السعادة, بل فائضةً بالذل والعذاب.
هنا, حيث الأزقّة موحلة, والأمراض متفشية بسبب الساقيات المكشوفة التي باتت مرتعاً مناسباً للذباب والبعوض.
وأما التعليم المتردي, فمدارسهم من خيمٍ بالية, أو من أبنية سقفها من صفائح التوتياء التي تمتص حر الصيف وتأتي ببرد الشتاء, فكيف لهم أن يتعلموا لينالوا الدرجات العلا, فلا التعليم مهتَم به ولا المدارس مجهزة, وهذا إن دلّ على شيء إنما يدل على إذلال التعليم.
عندما تتجوّل في أزقة المخيمات تسمع أحاديث القاطنين بها, فهذه الأم جعلت من خيمتها المتواضعة مكاناً للطبخ والنوم والاستحمام وتعليم الاطفال, لكن كيف لهذه الأمتار القليلة أن تفي بكل متطلبات الحياة المتزايدة ؟؟.
وأما عند أطفال المخيمات, هنا توقف واختصر كل لغات الألم, فقد حُرموا من أهم حقوقهم باللعب والعيش في سلام وهذا ما يُسمى عند غيرهم: (حق الطفولة), فلا ملاعب لهم ولا حدائق تهبهم متعة اللعب, يلعبون هناك بالأحجار والطين ولكن رغم كل ذلك تراهم مبتسمين للحياة, متحدّين كل الحروب, ليقولوا للحياة نحن باقون رغم كل المحن.
ابتسامات أطفالها وجريهم يبعث في نفسك الأمل بالغد بأن الأيام القادمة ستلد لنا جيلاً قوياً, نضج في آتون الحرب, وهذا الجيل سيعطيك الحرية التي حلمت بها يوماً.
في هذه المخيمات ترى حالاتٍ يندى لها جبين الانسانية, وعلى سبيل الذّكر لا الحصر, رجلٌ فقدَ أولاده جميعاً وسكن الخيام مثل باقي النازحين, لكن فقره ومرارة عيشه جعلته لا يجد حلاً للخلاص إلا بالانتحار, وهذا يدلّ على عمق المآسي التي كابدها بجسد متعب.
تجوّلت مرة في تلك المخيمات لأستقصي الحالات المتعبة, وأستمع للقصص الحزينة وما أكثرها, لكن الموجع أني في طريقي بتلك الأزقة العشوائية رأيت رجلاً مريضاً يجلس خارج خيمته البائسة وبجانبه أولاده, أما زوجته فقد كانت تغسل الثياب بيديها المتعبتين, وكانت تعمل في تنظيف دورات المياه المشتركة كطريق لكسب قوت يومهم, أيضا وجدت مخيمات نستها المنظمات الاغاثية, فلم تلق دعماً كافياً لتجديد الخيم الممزقة المهترئة.
في هذه المخيمات تجد مَن قاوم قساوة الطقس في حرّه وبرده ببناء الجدران الإسمنتيّة, لكن العواصف آتت على بعض منها, فبعضها هُدِم على رؤوس الأطفال النائمين, وبعضها جرفتها السيول الجارفة, في مأساةٍ متكررة كل عام دون أيّ حل من القائمين عليها.
تجوّل واستمع للقصص المتعبة بضميرك علّه يرأف بحالهم الشقيّ, ولكن رغم كل ذلك تجد عيونهم تحلم بيوم الحرية والرجوع, وآمالهم انصبّت على حلمٍ واحد وهو تأمين حياة أفضل لهم ولذويهم.
بقلم: فداء معراتي