لم تعد المعارضة السورية المسلحة مفضلة لدى الأمريكيين كما كانت في السابق. هذا ما تهمس به أغلب الشخصيات السورية المعارضة التي تلتقيها في اسطنبول.
الوقائع التي تُشير إلى ذلك كثيرة. من الفيتو على تسليحها منذ اليوم الأول لتحول الثورة الشعبية السلمية إلى صراع مسلح، إلى الحديث في السر والعلن عن علاقة هذه الفصائل بتنظيمات جهادية على غرار جبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وليس مؤخرا الاتجاه الأمريكي إلى تفضيل التعامل مع التنظيمات الكردية المتواجدة في الشمال السوري على حساب باقي فصائل المعارضة.
رغم أن واشنطن نأت بنفسها في بدايات الحرب السورية عن دعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب الكردية تجنبا لردة فعل أنقرة التي ينتابها قلق كبير من هذه التنظيمين وتحركاتهما المريبة على حدودها، فضلا عن علاقتهما بحزب العمال الكردستاني الانفصالي داخل تركيا، إلا أن الأمريكيين فضّلوا في النهاية التعامل مع هذين التنظيمين.
هذا التوجه كان نتيجة حتمية لاستراتيجية الرئيس باراك أوباما التي صبّت معظم جهودها خلال السنوات الأخيرة على محاربة داعش. وقد أوضح في أكثر من مناسبة هو وغيره من مسؤولي إدارته أن اهتمام الولايات المتحدة سيكون في المرحلة المقبلة مركزا على إخراج التنظيم من معقليه الأساسيين في الرقة السورية والموصل العراقية بنهاية العام الجاري.
لذلك أولى اهتماما بالغا بإلحاق الهزيمة بالتنظيم لما يعنيه ذلك بالنسبة له شخصيا ورغبته في تحقيق إنجاز قبيل مغادرته البيت الأبيض يغطي على إخفاقاته المتعددة في إدارة الملف السوري.
في 27 أيلول/ سبتمبر عام 2014 سجلت نقطة تحول أساسية عندما بدأت واشنطن بقصف مواقع داعش في عين العرب كوباني على الحدود التركية دعما للفصائل الكردية وقدمت أسلحة لها عبر الجو في الشهر التالي.
كان ذلك بمثابة نقطة البداية في الدعم المباشر للمقاتلين الأكراد على جبهات القتال، رغم أن الولايات المتحدة نأت بنفسها في السابق عن دعمهم تجنبا لردّة الفعل التركية، وأقرت بشكل صريح بمخاوف أنقرة من تحول جارتها الجنوبية إلى قاعدة انطلاق لمقاتلي حزب العمال وملجأ لهم.
منذ اليوم الأول لدخول روسيا العلني على خط الحرب السورية في نهاية سبتمبر أيلول العام الماضي، عدّل الأمريكيون على نحو كبير من خططهم في سورية، مع تركيز موسكو أكثر من 90 بالمئة من ضرباتها الجوية على فصائل المعارضة المصنفة لدى الغرب بالمعتدلة، لا سيما أن التدخل الروسي فاقم من قلق واشنطن التي كانت تخشى من تحقيق داعش مكاسب جغرافية إضافية في الشمال على حساب المعارضة التي أنهكت بفعل الغارات الروسية. الأمريكيون كان بمقدورهم ممارسة ضغوط كافية على الكرملين لوقف استهداف المعارضة، لكنّهم انصرفوا عوضا عن ذلك إلى تعزيز قنوات الاتصال مع المجموعات الكردية ومدّها بالسلاح والمستشارين العسكريين.
في الواقع، لم يكن التدخل الروسي الدافع الرئيسي لواشنطن لتفضيل الأكراد على المعارضة. فالولايات المتحدة لم تكن منذ بدايات الثورة تثق بتنظيمات المعارضة حتى تلك التي تعتبرها معتدلة. وهذا يعود إلى طبيعة أجندة الفصائل التي أفرزتها الثورة من أجل محاربة نظام الأسد، ومن ثم داعش التي ظهرت فيما بعد كتحدي جديد لا يختلف كثيراً عن النظام السوري.
هذه الاستراتيجية لم تتوافق مع الأمريكيين، الذين لم ولن يكونوا بوارد الدخول على خط صراع المعارضة مع النظام، ووضعوا شرطاً تعجيزياً على المعارضة تمثل بدعمها مقابل حصر نضالها ضد داعش فقط.
كان من السهل على الأمريكيين التعامل مع الأكراد، فمواجهة النظام السوري ليس من ضمن أولوياتهم لا في الماضي ولا حتى في المستقبل. هذا ما بدا جلياً من خلال التعاون الوثيق بين حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية واقتسام مناطق النفوذ معه في الحسكة والقامشلي على سبيل المثال، ناهيك عن عداء التنظيمين للجيش السوري الحر وطعنه في الخلف في أكثر من مرة، وهو ما وضع الفصيلين في موقع العداء للثورة بدل المناصرة لها.
المفارقة أن النزعة الانفصالية لدى التنظيمات الكردية المسلحة توافقت إلى حد كبير مع الرؤية التي تعمل عليها موسكو لسورية المستقبلية. من هذا المنطلق، برز التنافس الروسي الأمريكي في استقطاب أكراد سورية، وشكّل دافعا إضافيا لواشنطن في الميل نحو الأكراد وتقديم الدعم لهم لثنيهم عن الارتماء بأحضان الروس، في ظل الإغراءات الروسية التي قدّمت لهم عبر طرح موضوع الفيدرالية، والذي كان موجهاً بالأساس إلى الأكراد أكثر منه تعبيراً عن رغبة روسية في إيجاد تسوية للصراع السوري.
من ضمن المسوغات الأخرى التي عملت عليها واشنطن لدعم أكراد سورية ولم توفق في ذلك، الحديث عن فعالية الفصائل الكردية في الحرب على داعش. وهذا لا يمكن الجزم به كمبرر لهذا الدعم على حساب الآخرين. فالمعارضة أبلت بلاء حسنا في مواجهة داعش في شمال البلاد وجنوبها، ولا تزال إلى اليوم تقاتل التنظيم بإمكانات متواضعة وسلاح شحيح.
كان بمقدور الأمريكيين أن يدعموا المعارضة، لكن بالتأكيد ليس عبر برنامج التمويل لتدريب عناصر الفرقة 30، والذي كان أشبه بالفضيحة بعد هجوم جبهة النصرة على مقرات الفرقة في إدلب نهاية شهر أغسطس آب من العام الماضي.
ولا تقتصر التناقضات الأمريكية على هذا الجانب، بل تنسحب إلى إثارة قضية التشكيك بعلاقة المعارضة المسلحة بجبهة النصرة وداعش ووضع فيتو على تسليحها، إذ أن الأمريكيون يدركون قبل غيرهم الخلافات الجذرية والعميقة بين المعارضة وهذين التنظيمين. أمام هذه المعطيات، حاولت واشنطن اللعب على كل هذه التناقضات عبر تأسيس تحالف “قوات سورية الديمقراطية” الذي يُشكّل المقاتلون الأكراد نحو 90 بالمئة من مكوناته، ولجأت إلى تطعيم هذا التحالف بفصائل من تشكيلات الجيش الحر، في محاولة لتطمين المعارضة السورية والأتراك على حدّ سواء، لكن هذه الخطوة باءت بالفشل.
قد ينجح التعاون الأمريكي الكردي في المستقبل القريب على دحر تنظيم داعش من معقله في مدينة الرقة، لكنّه في ظل النزعة الانفصالية الكردية وسعي التنظيمات الكردية إلى ربط المناطق ذات المكون الكردي ببعضها البعض من أجل إعلان الفيدرالية على المدى القريب، والانفصال مستقبلاً عن سورية فيما لو قدر لهم ذلك، سيفرز عنصرا جديدا يضاف إلى تعقيدات الأزمة السورية، وسينعكس حتماً على المساعي الأمريكية والروسية في إيجاد تسوية للصراع السوري قائمة على منع التقسيم.
الله إذا كانت نوايا واشنطن وموسكو صادقة في الحفاظ على وحدة التراب السوري.