“كنت جالساً مع زملائي في مركز بليون (قرية في جبل الزاوية، جنوبي إدلب) للدفاع المدني، عندما صاحت المراصد عبر اللاسلكي: طيران حربي في الأجواء، متجه نحو جبل الزاوية. جهّزنا المعدات، متوقعين أن تقصف الطائرة في أي لحظة، وفعلاً تم إبلاغنا أن الغارة استهدفت منطقة بين قريتي احسم والبارة، فتوجهنا نحو المكان المستهدف على الفور، وقبل وصولنا سمعنا صوت القصف الثاني في المنطقة نفسها، ولم يكن أمامنا إلا إكمال طريقنا نحو المكان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”.
يضيف العشريني محمد إبراهيم سعيدو، وهو أحد عناصر الدفاع المدني في محافظة إدلب، لـ”العربي الجديد”، قائلاً: “وصلنا للمكان الذي قصفته الطائرة الحربية، وكان ذلك في بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فوجدنا أن القصف استهدف مدجنة طيور، ثم استهدف بيتاً قريباً منها. وبينما كنا نسارع لرفع الأنقاض بهدف إخراج الضحايا من المكان المستهدف، نفذت الطائرة غارة ثالثة في المكان نفسه، فقُتل على الفور زميلنا في الدفاع المدني عصام الصالح، وأصيب آخرون منا، فضلاً عن الضحايا المدنيين الذين خلّفهم ذلك الهجوم”.
يروي محمد هذه القصة التي عاشها خلال فترة عمله بفرق الإنقاذ، ويقول إن عشرات الوقائع المماثلة وقعت معه ومع أصدقائه أثناء أداء عملهم، وهو واحد من بين ألفين وتسعمائة شاب تقريباً، من عناصر “الدفاع المدني السوري”، المنتشرين في أغلب المناطق السورية الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تتعرض للقصف المدفعي أو الغارات الجوية بشكل دائم، وكان عمل بعضهم بدأ قبل نحو أربع سنوات، من خلال مبادرات فردية، أتت في ظل ظروف القصف المستمر في بعض المناطق، والذي غالباً ما يؤدي لسقوط ضحايا من بينهم عناصر فرق الإنقاذ في بعض الأحيان.
لكن مع اتساع رقعة الأماكن التي يتم استهدافها، ودخول أسلحة جديدة أشد فتكاً، في العمليات العسكرية الدائرة في عدة محافظات سورية، وكثرة الغارات في المناطق نفسها، والتي كثيراً ما كان يتسبب التأخير في عمليات البحث غير المنظمة تحت الأنقاض بمقتل ضحايا إضافيين، بدأت تزداد المبادرات الفردية للمتطوعين الذين يسارعون لإخلاء ضحايا القصف، وإنقاذ ما أمكن من تحت الدمار، حتى تم إنشاء منظمة “الدفاع المدني السوري” بشكلها المؤسساتي الحالي، في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2014، وعُرف عناصرها بـ”أصحاب الخوذ البيضاء”.
ونتيجة لطبيعة عملهم الإنساني الصرف كفرق إنقاذ، وابتعادهم عن السياسة، وتجنبهم الدخول في الخلافات الفصائلية والحزبية بين التيارات الأيديولوجية المختلفة، التفّ معظم السكان في المحافظات التي تشهد عمليات عسكرية حول عناصر الدفاع المدني، وباتوا مقبولين من عامة الناس. لكن ذلك لا يعني أنهم سلموا من قصف الطائرات الحربية تارةً، ومن الحملات الإعلامية للنظام تارةً أخرى، والتي تسعى لتشويه صورتهم بغية ثنيهم عن مواصلة ما يقومون به من أعمالٍ إنسانية لا لبس فيها.
“شيطنةٌ لضرب المصداقية”
بعد أن اتسعت رقعة المناطق التي يوجد فيها “أصحاب الخوذ البيضاء”، إذ بات لهم نحو مئة وتسعة عشر مركزاً في ثماني محافظات سورية، ذاع صيتهم داخل البلاد وخارجها، خاصة أن زيهم الموحد كان يميّزهم دائماً بين الناس، في المشاهد المصورة التي تعرضها مختلف الفضائيات ومواقع الإنترنت، عند وقوع قصف بريّ أو جويّ.
وظهر مدير منظمة الدفاع المدني السوري، رائد الصالح، في محافل دولية عدة، أبرزها مجلس الأمن الدولي، وشارك في جلسات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، حيث ألقى كلماتٍ حول ظروف عمل عناصر هذه المنظمة، مقدماً تقارير عن “الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها النظام” والتي عاينها وقام بتوثيقها عناصر الدفاع المدني، في مناطق عديدة كانوا فيها بحكم طبيعة عملهم كفرق إنقاذ.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، تعرضت فرق “الدفاع المدني السوري” لحملاتٍ إعلامية، من وسائل إعلامٍ تابعة للنظام أو تسبح في فلكه، تحدث جلّها، عن أن منظمة “الدفاع المدني السوري” ليست إلا جهة “تدعم الإرهاب”، بـ”أموالٍ خارجية مشبوهة”.
لكن الصالح يعتبر، في حوارٍ مع “العربي الجديد”، أن توجيه هذه الاتهامات يعود لكون المنظمة “نجحت في الظهور كمؤسسة منظمة في سورية، الأمر الذي أزعج النظام”، و”خاصة أننا شاركنا في عدة مؤتمرات دولية وقدمنا شهاداتنا وتقاريرنا حول المجازر، والتي أثبتنا فيها مصداقيتنا، وباتت معتمدة من جهات عدة”. ويضيف الصالح أن “اتهامات النظام لا تنطلي على أحد، وهو الذي يصف أي منطقة خارجة عن سيطرته، وأي منظمة تعمل في سورية خارج مناطقه بالإرهابية ولو كانت مجرد فرق إنقاذٍ لأرواح الناس الذين تتعرض بلداتهم ومدنهم للقصف والغارات”.
ويعزو سبب اتساع الهجمة على فرق الإنقاذ التي يديرها إلى “نجاحها بتوثيق معظم الجرائم التي يرتكبها النظام وحلفاؤه بحق المدنيين”، مشيراً إلى أن “توثيقنا لأغلب انتهاكات روسيا بسورية ضد المدنيين، وحملات الإدانة الواسعة التي تلت ذلك، دفعها لتخفيف هذه الانتهاكات تجنباً لمزيدٍ من الإدانات”. وحول التمويل الذي تتقاضاه فرق الإنقاذ التي يديرها، يؤكد أنه “يأتي من منظمات معروفة بالاسم، وتدعم الأعمال الإنسانية ومشاريع مدنية بحتة في مختلف أنحاء العالم، ومعظمها من دول مجموعة أصدقاء سورية”.
وفيما يقول الصالح بأن الهدف من الحملات الإعلامية “الممنهجة”، ضد “الدفاع المدني السوري” هو “التشكيك بمصداقيتنا وتشويه سمعتنا دولياً بعد أن بتنا جهة موثوقة ذات مصداقية”، فإنه يشير إلى أن الخطر الأكبر الذي يتعرض له أعضاء فريقه هو استهدفهم بشكل “متعمّد” بالقصف والغارات، ويؤكد أن “مئة وخمسة عشر من كوادر الدفاع المدني، واثنين آخرين من المتطوعين فيه، قتلوا خلال أدائهم عملهم”، ويذكر مثالاً على ذلك في هذا السياق، بأن “أول الغارات الروسية في سورية صباح التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2015، أدت لمقتل عبد الله الضحيك، وهو أحد كوادر الدفاع المدني في بلدة تلبيسة”، بريف حمص الشمالي.
موجودون حيثما وُجد الخطر
في هذا الإطار، يتحدث أحد كوادر “الدفاع المدني السوري”، راضي سعد، وهو شارك بعشرات عمليات الإنقاذ في مناطق شمالي سورية، عن شتى الصعوبات اللوجستية والنفسية التي يعيشها عناصر فرق الإنقاذ التي يعمل بها، كما يعرض شريط فيديو تم تصويره يوم العشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويظهر فيه عدد من “أصحاب الخوذ البيضاء” قرب مشفى تعرض محيطه للقصف بقرية سرمدا في ريف إدلب الشمالي، قبل أن تستهدف المكان ذاته غارة ثانية أمام الكاميرا أدت لمقتل عبد الرزاق العبود، أحد كوادر الإنقاذ.
ويعرض سعد مشاهد أخرى تم التقاطها في أماكن مختلفة، مثل محافظات حلب وإدلب وريف دمشق وغيرها، تُظهر، كما يقول، جانباً ضئيلاً من حجم المعاناة التي يعيشونها أثناء أدائهم عملهم الذي يقتضي عليهم الوجود حيثما وُجد الخطر.
ويؤكد سعد، في حديثه لـ”العربي الجديد”، أنه وبرغم هول الويلات التي يعيشها يومياً عناصر فرق الإنقاذ، لم يسلموا من محاولات النظام المستمرة لتشويه سمعتهم، مشيراً إلى أن “الحملات الإعلامية ضد الدفاع المدني ليست جديدة، وقد لاحظنا أنها بدأت منذ نحو سبعة أشهر، وتحديداً منذ الشهر العاشر من السنة الماضية بعد بدء الغارات الروسية، لكنها كانت موجهة بشكل عام للجمهور الغربي باللغة الإنكليزية”، وهي “تسعى لشيطنتنا وسلخ صفة المدنية عن أعمال الإنقاذ التي نقوم بها”، لكن “كل ذلك لن يؤثر على عملنا وسنبقى كما كنا دائماً، حيثما اقتضت الحاجة أن نكون”.
وحول الأعمال التي يقومون بها حالياً، يشير إلى أن مهامهم الأساسية تكمن في عمليات “البحث، الإنقاذ، الإخلاء، الإطفاء، تأهيل المناطق المتضررة، الإنذار المبكر، إزالة مخلّفات الحروب”، فضلاً عن توجههم خلال هذه الفترة، لعقد دورات تدريبية تهتم بالـ”التوعية حول إخلاء مناطق القصف والخطر، والتعامل مع الذخائر غير المنفجرة وأمور أخرى مماثلة”.
ويقول إن فرق الإنقاذ التي يعمل بها، افتتحت 119 مركزاً في “مناطق بريف اللاذقية الشمالي، وإدلب، وحلب، وحماه، وحمص، ودمشق وريفها، ودرعا، ونسعى لأن نكون في محافظة القنيطرة أيضاً”، مؤكداً أن هذه المراكز “لا تنتمي لأي فصيل أو حزب سياسي، وتعمل جميعها وفق مبادئ المنظومة بشكل عام والتي تركز على الأعمال الإنسانية وإنقاذ أرواح الناس في المناطق التي تقع فيها أخطار”.
انتهاكاتٌ طاولت 66 مركزاً
فضلاً عن الأخطار التي يعيشها أفراد فرق الإنقاذ هذه خلال وجودهم في الأماكن الخطرة، فقد تعرضت عدة مراكز لهم في سورية للقصف بشكل مباشر، كان أبرزها أخيراً، يوم السادس والعشرين من إبريل/نيسان الماضي، إذ قضى خمسة منهم في الغارة التي استهدفت مركزهم في قرية الأتارب، غربي حلب، ويشير تقرير “الخوذ والأيادي البيضاء”، الذي أصدرته أخيراً “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، إلى تعرض “مراكز الدفاع المدني السوري لـ66 حادثة اعتداء، 62 منها على يد القوات الحكومية، و3 على يد القوات الروسية، وحادثة اعتداء واحدة على يد جهة لم تتمكن الشبكة من تحديدها”.
ورغم ما يتعرض له عناصر هذه المؤسسة، التي ولدت بمقتضى ظروفٍ دامية، في أخطر مناطق العالم هذه الأيام، فإن أفرادها ما زالوا يبدون حماسة في تأدية عملهم، ويقولون إنهم “مستمرون رغم كل المخاطر”، كما تدل شهاداتهم التي أدلوا بها لـ”العربي الجديد”. فهناك في جبل الزاوية بريف إدلب، يبقى محمد إبراهيم سعيدو، من مركز قرية بليون لـ”الدفاع المدني السوري”، جالساً أمام مراصد اللاسلكي، مترقباً الإنذار المعتاد الذي يطلقه أشخاصٌ آخرون، اعتادوا العمل في رصد الطائرات، إذ يصيحون عادة عبر أجهزة اتصال اللاسلكي عند اقتراب الطيران العسكري: “حربي بالأجواء، مروحي ينفذ بالبراميل”.
ويختم سعيدو حديثه لـ”العربي الجديد”، بالقول: “كلما نسمع هذا النداء، يتوجب علينا التوجه نحو المكان المستهدف. فعملنا هو أن نكون حيثما كان الخطر. لقد أصبح سحب جثث الضحايا وأحياناً الأشلاء من تحت الأنقاض من تفاصيل حياتنا”. ويضيف: “لا أستطيع تلخيص أي صورة واحدة من مئات المشاهد التي عشتها خلال السنوات القليلة الماضية، فغالباً عند وصولنا لمكان القصف، أول ما نشاهده هو جثث مترامية هنا وهناك، ويكون علينا في الوقت نفسه أن نتماسك ونضبط أعصابنا، لنبدأ وفق إمكاناتنا البسيطة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه”.
العربي الجديد