مدى الفاتح _ صحيفة القدس العربي
منذ نجاح الثورة الخمينية منذ حوالي الأربعين عاماً، وظهور إيران الجديدة بنسخة راديكالية، والتلاسن لم يتوقف بين إيران والدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بل وصل الأمر لحالة من القطيعة التامة، ليس فقط مع واشنطن ولكن أيضاً مع معظم العواصم الغربية، التي كانت تتفق مع الأمريكيين في وصف دولة الولي الفقيه بكونها أهم منابع الإرهاب في العالم.
كان كل من الطرفين يرى في الآخر محوراً للشر وشيطاناً مساهماً في تخريب العالم. كان هذا التلاسن الذي ميز هذه العلاقة الفريدة يزداد مع صعود شخصيات مثل الرئيس أحمدي نجاد في إيران، وجورج بوش في أمريكا، ويخفت مع الخطابات الأقل حدة التي كانت تقدمها شخصيات معتدلة من الطرفين، لكننا نلاحظ أنه حتى في أوقات الدفء النادرة بين الطرفين، فإن نغمة صوت مرشد الثورة الإيرانية الحانقة لم تتغير، وكذلك الحال عند الأجنحة اليمينية والمتطرفة داخل الولايات المتحدة، التي ظلت تدعو بلا هوادة لضرب إيران أو لتغيير نظامها بالقوة.
هذه الصورة التي يدركها الجميع تدفع للسؤال عن الجديد في اللغة الأمريكية، التي تهدد إيران بأبلغ العقوبات. بالنسبة للبعض فإن مسألة العقوبات لن تأتي بجديد، بل حتى مسألة التهديد بتغيير النظام في طهران، سبق ترامب إليها كثير من الرؤساء والساسة، وتم تدوالها بكثرة وكثافة لدرجة أنها لم تعد تثير القدر المطلوب من الحماسة.إلا أنه يوجد في الواقع أمران جديدان في هذه العقوبات، هما أولاً، الزمان الذي يأتي بعد انتكاسة مدوية لمشروع الاتفاق النووي مع إيران، الذي كان في أبعاده التقنية والسياسية، يقدم إعادة ترتيب جديدة للوضع في المنطقة. وثانياً، طبيعة العقوبات نفسها التي يمكن لمن ينتبه لها أن يكتشف أنها مختلفة فعلاً عن أي عقوبات سابقة. حينما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه «تمزيق هذا الاتفاق» بمجرد وصوله إلى الحكم، لم يتعامل كثيرون مع هذا التصريح بجدية، واعتبرت إيران نفسها مسنودة من قبل الشركاء الأوروبيين، الذين سيساعد الاتفاق وما ينتج عنه من انفتاح على حصولهم على سوق كبيرة للتسويق ولتبادل التجارة ومشاريع الإعمار، بما تقدر أرباحه بملايين الدولارات. كانت إيران تظن، ومعها أطراف أخرى أيضاً، أن الأوروبيين وبسبب هذه الفوائد الاقتصادية سوف يشكلون حاجزاً للصد ضد أي محاولة لفرض الحصار، أو لإعادة النظام الإيراني للائحة العقوبات السوداء القديمة. لقد قام الأوروبيون بالكثير في هذا الاتجاه فعلاً فعارضوا المساعي الأمريكية عبر لقاءات كثيرة، وحوارات مباشرة، وعبر اللجوء لوسائل دبلوماسية من خلال المؤتمرات المتعلقة بالشأن النووي، التي كانت تهدف لعزل الولايات المتحدة التي لم يكن يساندها بشكل مفتوح إلا الكيان الصهيوني الرافض بقوة لتحول إيران لدولة نووية، ولو على نطاق الاستخدامات السلمية. إلا أن المساعي الأوروبية وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد من الممكن مواصلة استعداء الولايات المتحدة بسبب الملف النووي. البراغماتية نفسها التي جعلت الأوروبيين يساندون الاتفاق النووي مع إيران ويدعمون بقاءه هي التي جعلتهم يراجعون مواقفهم مؤخراً. كان المنطق يقول إنه إذا كانت واشنطن في كفة وطهران في كفة أخرى فإن الأوروبيين، وغيرهم بكل تأكيد، لن يملكوا إلا اختيار كفة العلاقة مع الأمريكيين.
المساعي الأوروبية وصلت إلى طريق مسدود، ولم يعد من الممكن مواصلة استعداء الولايات المتحدة بسبب الملف النووي
يمكن القول إن الأمور عادت إلى مربعها الأول بعد فترة قصيرة واستثنائية من الدفء الحميم. للتذكير ببعض مراحل هذا الدفء، يمكننا أن نسترجع ذلك المشهد من زيارة الرئيس روحاني إلى العاصمة الإيطالية روما، الذي تمت فيه تغطية بعض التماثيل الإيطالية الشهيرة احتراماً للضيف المحافظ. حمل ذلك المشهد الذي رأى فيه البعض تنازلاً كبيراً، دلالات كثيرة حول التعويل المشترك بين الطرفين الإيراني والأوروبي على بعضهما بعضا وعلى مراهنتهما على الاتفاق النووي.
لكن إيطاليا ودولا أوروبية أخرى لم تسع لغض النظر عن التماثيل العارية فقط، ولكن الأهم هو أنها وجدت نفسها مجبرة على غض النظر أيضاً عن السلوك السياسي الإيراني، وعن التدخلات العسكرية التي كانت تقوم بها في أجزاء واسعة من جوارها. لم يكن الأوروبيون مستعدين في ذلك الوقت للضغط على طهران أو على أخذ موقف منها قد يؤثر على الأرباح الاقتصادية المتوقعة، أو على الاتفاقيات التجارية التي كان يجري التخطيط لها، خاصة مع علمهم أن إدارة الاقتصاد متحكم بها بشكل أو بآخر بواسطة «الحرس الثوري» المسؤول بشكل مباشر عن تنسيق وتمويل تلك التدخلات الخارجية. ما يجب إدراكه هو أن الواقع الدولي يتغير بوتيرة متسارعة، فإذا كانت إيران حتى هذا الوقت من العام الماضي مثار اهتمام للنخب الاقتصادية والسياسية، باعتبارها سوقاً واعداً وملاذاً جديداً للاستثمار الرابح، فإنها اليوم تقف وحيدة بدون أصدقاء يمكنها بالفعل أن تثق بهم أو أن تراهن بشكل تام عليهم. هي تتحلى الآن بعلاقة جيدة مع تركيا، ولكنها علاقة كلمة السر فيها هي التبادل التجاري، وإمدادات الطاقة، وإلا فالاختلافات بين أنقرة وطهران حول الملفات الإقليمية وحول الرؤية للعالم تتباين بشكل لا يخفى.
الأمر نفسه يمكن سحبه على الصين أو على روسيا اللتين تستفيدان من حالة انعدام الخيارات أمام الإيرانيين، من أجل شراء المواد النفطية بأسعار هي أقل من المعدلات العالمية، وتوفير بضائع أيضاً بشكل لا يكون بالضرورة هو المتبع في الحالات الدولية المشابهة.
من ناحية أخرى تحاول الولايات المتحدة هذه المرة تطبيق «عقوبات ذكية» قادرة على خنق النظام الإيراني، وغير معادية للشعب في الوقت ذاته. هذا ما تعلنه وما يصعب الوثوق به، حيث تفيد التجارب بأنه كان يستحيل في معظم الأحيان الفصل بين الشعب والنظام في كل الدول التي مرت بحالات مشابهة من الاستهداف، بل ربما شكّل الضغط غير المباشر على الشعب هدفاً بحد ذاته، من أجل إثارة القلائل أو دفع الناس للثورة وتغيير الوضع القائم. لا تسعى الولايات المتحدة من خلال رؤيتها الجديدة للعقوبات لأن تمنع إيران من تصدير المواد النفطية، لكنها تسعى للتحكم في مسار المداخيل، حتى لا يتم استغلال هذه الأموال وتوظيفها بشكل غير مرغوب فيه، بمعنى أن تكون إيران قادرة على جلب بعض السلع الإنسانية والاحتياجات الغذائية والطبية، لكن عاجزة في الوقت ذاته عن تمويل تدخلات جديدة، أو حتى متابعة تطوير برنامجها النووي، وهو ما يشبه من بعض الوجوه ما تم تطبيقه في العراق تحت مسمى «النفط مقابل الغذاء» الذي ووجه بانتقادات كبيرة حينها.
يمكن رد حالة السخط التي بدأت تتزايد في الشارع الإيراني منذ بداية هذا العام لحالة الإحباط التي لمسها المواطنون بعد تبخر أحلامهم، التي اتسعت عقب التوصل للاتفاق مع الغرب. اليوم، وإذا تأكد خروج الدول الأوروبية من مولد الاتفاق خالية اليدين، بعد فشل مشروع الآلية الأوروبية المقترحة لمكافحة العقوبات الأمريكية، فإنه لا شيء سوف يحمل الاتحاد الأوروبي على مواصلة غض الطرف عن أي سلوك إيراني غير مقبول، ما سيشكل فارقاً كبيراً في الفترة المقبلة. كل هذه مستجدات يجب النظر إليها بعين فاحصة ودراسة تأثيراتها ليس فقط على إيران، بل على جميع دول المنطقة.
نقلاً عن : القدس العربي