عمد النظام السوري منذ اندلاع احتجاجات سلمية في درعا عام 2011، طالبت بالإصلاحات والتغيير على خطى الدول التي طالتها شرارة ما سمي بالربيع العربي، إلى ردع الحراك السلمي بالقوة والنزوع نحو التوحش حيث فقد النظام اعتباراته الأخلاقية في المعركة، ما جعل الحراك المحلي يحتمي بالقوى الإقليمية التي أوهمته أن دولا كبرى تراقب وترعى مطالبه، لكن ضعف تسليح المعارضة من قبل أصدقائها وتحويل وجهة الحرب في سوريا إلى معركة ضد الإرهاب برعاية دولية يفرض واقعا يسمح بإطالة أمد الحرب حتى يحين موعد قطاف ثمارها، ويستدعي من المعارضة السورية إعادة النظر في رعاياها الإقليميين وضرورة العودة إلى محليتها لتحقيق تسوية سياسية حقيقية.
اندفعت المعارضة السورية سريعا لتكون جزءا من أجندات الخارج، وربما لم يكن لها خيار. بدأ الحراك في سوريا في ربيع عام 2011 سوريّ الحوافز والأدوات والسبل والشعارات، وجاء، على الرغم من عبقه المحلي، متسقا مع نسمات “ربيع” عربي كان يعِدُ بتبّدل في طبيعة أنظمة رانت بلدان المنطقة منذ الاستقالات. لكن مِنْعَة هذا الحراك انهارت وصارت، تحت وقع القمع الدموي العنيف، عرضة لأي مغريات تعويضية واعدة توفّرها هذه العاصمة أو تلك.
“سوريا بدها حرية”، شعارٌ بسيط كان يُفترض أن يحفّز النظام السوري على الدفع بإصلاحات، ولو تجميلية، تستوعب حراك الشارع وتواضع مطالبه، وكان يُفترض أن يحثّ حكام دمشق على إدراك طبيعة التحوّلات الإقليمية والدولية الجارية، والتي تستحق مقاربة جريئة لإصلاح عطب تاريخي منذ أن أحكم العسكر والحزب ومافيا رجال الأعمال قبضتهم على يوميات البلد ومستقبل ناسِه.
أدرك نظام دمشق منذ اللحظة الأولى أن لا حجّة لديه لمواجهة مطالب “عادية” في القرن الحادي والعشرين، وأن لا مواهب لديه للردّ على حراك سلمي يستخدم الهتاف والغناء والشموع والهواتف الجوالة. حتى أن ذلك النظام، ومن خلال استخدام تعبير “المندسون” اعترف أن ما هو أصل هو حراك أهلي سلمي شامل، وما هو فرع هو تطفل “مندس” على حقيقة أن الشعب برمته (بما في ذلك الموالين له) بات يريد تغييرا يستطيع هذا النظام توفيره.
التسليح الذي قُدم للمعارضة بقي محسوبا مقننا في عدده ونوعيته لا يتجاوز هامشا يتيح عدم القضاء على المعارضة لكنه لا يسمح أبدا بإلحاق هزيمة بالنظام
ردع المعارضة بالقوة
يذكر السوريون أن نظام دمشق، ومن خلال تنظيمه لمؤتمرات الحوار في فنادق العاصمة في بدايات الحراك، كان يعترف بأن هناك “خطبا”، وأن الأمر يحتاج إلى مناورات التفافية تروّج لجدل داخلي تحت رعاية الدولة، لكن سرعان ما اكتشف ذلك النظام أن مجرد القبول بالجدل، ولو بشكل صوري، هو اعتراف بأن هناك آخر، وبمجرد شعور هذا الآخر بأن النظام يعترف به، فذلك يعني آليا أن لا شرعية تبرر ديمومة احتكار هذا النظام لحكم البلاد. فقدَ النظام معركته أخلاقيا وبات عليه ولوج ما برع به قبل ذلك بعيدا عن أي اعتبارات أخلاقية : التوحش.
لم يكن يطمح السوريون في الشوارع إلى ارتقاء حراكهم إلى مستويات تتعدى المحافظات التي ينشطون داخلها. زار سفراء واشنطن وباريس ولندن المتظاهرين في حمص في يوليو 2011، فمنحوا ما هو بيتيّ محلي شرعية دولية ترعاها عواصم كبرى، وأوحوا للمتظاهرين السلميين أن لحراكهم عبقا يحاكي معايير العصر وأن دولا كبرى تراقب وتتأمل وتحيي مطالبهم في أن “سوريا بدها حرية”.
لم تستطع المسيرات الشعبية الموالية التي نظّمها النظام لاحقا في دمشق وكبرى مدن البلاد أن تجهض مظاهرات المعارضة التي تمددت من منطقة إلى منطقة ومن مدينة إلى أخرى، وباتت تخترق المجتمع بتعدد مشاربه وتياراته ومذاهبه تحت شعار “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد”.
كان لا بد لذلك النهج السلمي، الموالي والمعارض، أن ينتهي، ذلك أن مواجهة “الإرهابيين” والردّ على “مؤامرة كونية” هو أسهل وأمضى من ردّ الناس العُزّل إلا من حناجرهم ولافتاتهم وقصائدهم.
كان سهلا تحويل المُسالم إلى مقاتل. تروي شهادات الذين نشطوا داخل تنسيقيات المجتمع المدني أن دموية قمع النظام لم يكن هدفها ردع المعارضة، فذلك كان سهلا بوسائل أقل عنفا، بل كان مطلوبا أن يتعملق الحقد في صفوفها وإقناعها بأن لا بديل للتعامل مع هذا النظام إلا بالقوة والدم.
يروي أحد الناشطين حكاية ناشط درج على توزيع الورود على رجال الأمن. “لم يعتقلوه لكنهم قتلوه. ولم يقتلوه فقط، بل تقصّدوا المبالغة في تعذيبه وإظهار ذلك على جثته حتى لا يبقى بين أصدقائه في ذلك الحراك إلا الحقد والنزوع نحو التوحش”.
وحين بدا أن أرضية العنف بدل الحراك السلمي باتت جاهزة، ظهر تنظيما داعش والقاعدة ونبتت جماعات العنف وتيارات التسلّح التي وجدت في أجندات هذه الدولة أو تلك ما يروي عطش الانتقام من النظام. تحوّل السجال السوري-السوري إلى حرب أهلية داخلية من جهة، وإلى مواجهة غير مباشرة بين عواصم المنطقة من جهة ثانية، ناهيك عن مواكبة ذلك بجرعات مذهبية عالية تم ضخّها من الخارج نحو زواريب سوريا، على ما تم الإجهاز به على مستويات رفيعة في السجال السني-الشيعي الذي اندلع في ربيع عام 2012 بين رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي ونظيره التركي، آنذاك، رجب طيب أردوغان.
إطالة أمد الحرب
باتت سوريا أولوية داخل أجندات عربية وإيرانية وتركية. لم تكن سوريا يوما متقدمة في سلم الأولويات الدولية، ونادرا أن تناولت وسائل الإعلام الداخلية في بريطانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة، أي تلك التي تُعنى بصناعة الرأي العام المحلي، المأساة السورية إلا في إطار فرعي هامشي لم يوحِ يوما أن هناك تحضيرا للرأي العام لتدخل ما في يوم ما لوقف المجزرة السورية. وإذا ما زُيّن لعواصم في المنطقة إمكانية إسقاط نظام دمشق، فإن العواصم الكبرى سهرت بدقّة على منع ذلك. ذلك فقط، وليس أي شيء آخر، هو ما منع سقوط دمشق.
لم يكن مطلوبا وقف الحرب في سوريا بل إزكاؤها وإطالتها وإنهاك سوريا دولة وشعبا ومؤسسات إلى أن يحين موعد القطاف
ليس صحيحا أن هنالك تحوّلا دوليا جديدا يدعو إلى القبول ببقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا. لم يفعل المجتمع الدولي يوما ما يهدد نظام دمشق على منوال ما فعله سابقا ضد أنظمة يوغسلافيا والعراق وليبيا.
بقي التسليح الذي قُدم للمعارضة محسوبا مقننا في عدده ونوعيته لا يتجاوز هامشا يتيح عدم القضاء على المعارضة لكنه لا يسمح أبدا بإلحاق هزيمة بالنظام. لم يكن مطلوبا وقف الحرب في سوريا بل إزكاؤها وإطالتها وإنهاك سوريا دولة وشعبا ومؤسسات إلى أن يحين موعد القطاف.
أبلغ السفير الأميركي في سوريا روبرت فورد المعارضة السورية باكرا بحدود ما هو مسموح به في سوريا. لم يكذب الرجل ولم تحد ما قارب المئة دولة داخل “مجموعة أصدقاء سوريا” عن قواعد لا توحي بأن هناك قرارا دوليا بإزالة نظام دمشق. قرأت دمشق وطهران ذلك مليا، واستند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هذه المسلّمة حين قرر دفع بلاده للتدخل العسكري في سوريا في سبتمبر 2015.
قد تكون أولوية القضاء على الإرهاب هي سرّ التحوّل اللفظي الذي طرأ على خطاب العواصم الكبرى حيال مصير الأسد. واشنطن لا تعتبر الأمر أولوية ورحيله لم يعد شرطا مسبقا بالنسبة إلى لندن ولا بديل عنه بالنسبة إلى باريس وهو الأقوى بالنسبة إلى برلين. وقد تكون هذه التحوّلات هي التي تدفع أنقرة والرياض إلى تحري سبل جديدة لمعاينة الترتيبات التي تُعد وفق ما يشبه الاتفاق بين واشنطن وموسكو.
على أن أي تسوية، ومهما كانت واقعيتها المؤلمة، مازالت تأخذ بالاعتبار أن النظام السوري يعاني من معضلة بنيوية لا يمكن بعد أكثر من 6 سنوات تجاهلها، وهو أمر يتم التعبير عنه أيضا في طهران وموسكو. ولا ريب أن اختفاء تنظيم داعش ثم النصرة، سيطرح أسئلة حول نجاعة استمرار هذا النظام بنسخته الحالية وبرئيسه الحالي في حكم البلاد.
ولا شك أيضا أن التفاهمات التي أنبتت مناطق خفض توتر، وقد تنبت غيرها، توحي بأن نظام دمشق يرعى واحدة من تلك المناطق وأنه سيضطر إلى التعايش طويلا مع مناطق أخرى أنتجتها تفاهمات الغرف الأمنية. يبقى أن إعادة تأهيل سوريا داخل المشهد الدولي، وخصوصا في مسألة إعادة الإعمار، تتطلب تسوية سياسية حقيقية لا يمكن للمعارضة إلا أن تكون أساسا لها.
وفي ضرورات خلق هذه التسوية ما يجعل من موقف المعارضة أصلا لا فرعا، وما يجعل من ضرورات العودة إلى “سوريّة” هذه المعارضة أمرا بات مطلوبا، حتى، للمفارقة، من رعاتها الإقليميين أنفسهم. قد لا تملك الدول معاندة مزاج دولي ينفخ في أشرعة تعويم الأسد ونظامه. وحدها المعارضة تملك ذلك. أراد نظام دمشق أن يسحب من المعارضة “سوريّتها” متفاخرا بأنه وحده من يدافع عن سوريا، سيفقد النظام كثيرا حين تتخلص المعارضة من حسابات “أصدقاء سوريا”.
محمد قواص
العرب