نامَ أهالي الحي خائفين مُترقّبين لِقصف طيران النظام الذي توعدهم به، ليأتي الصباح المشؤوم ببداية مأساة “أم صدّام وأخواتها”.
نال الطيران من أزواج الأخوات الثلاث، إلا أنّ لأمّ صدّام النصيب الأكبر من الحُزن في هذه القصة.. وفي شباط 2015 بعد القصف على ريف حلب الشماليّ قامت قوات النظام باقتحام البلدة وأسر ما يقارب 500 امرأة إحداهُن الأخت الوسطى لأم صدّام.
تصفُ لنا أم صدّام تلك المأساة فتقول: يومٌ كأنّه القيامة بائسٌ حزين لا أستطيع وصفه، نهار ولكنّه مُظلم جدّاً، الأشلاء في كل مكان، بيوت مُهدّمة.. كل امرءٍ له شأنٌ يُغنيه..
أقفُ على مئةِ مُصاب لا أدري أيها أشد؟
أودّعُ زوجي ورفيق دربي الذي فقدته للتو؟ أختي في الأسر.. وأختي الأخرى باتت أرملة أيضاً.. أحملُ جِراح الجميع.. ذاك قدري فأنا أكبرهم..
لأم صدّام أربعةٌ من الأولاد وأربع من البنات..
تُكملُ أم صدام: بصوتٍ خافت مُتصدّع من شِدّة الهموم.. لا أملكُ إلا أن أصطحب أولادي من تلك القرية التي باتت مقبرة لكل شيء، لأزواجنا.. أحلامنا.. بيوتنا.. دفنّا فيها الأمل.. وتوجهنا كحالِ أغلب الأهالي إلى قريةِ مَسكنة بريف حلب..
تمكثُ أم صدّام وعائلتها عِدّة أشهر.. تُحاول أن تحتضن شتات أمرها وعائلتها.. ولكن طائرات النِّظام لم تكتفِ بما أخذته منها..
تقول عفاف “اسم مستعار” الأخت الصغرى لأم صدّام: بعد تلك الفاجعة بدأنا نحاول التأقلم مع الحياةِ مجدداً في قريةِ مَسكنة، تلك القرية البائسة والتي تزيدُ من حزننا، نائية.. بعيدة عن الحياة ورائحة الموت تعشعشُ فيها..
أو لربما هذا ما رأيناه في القرية التي يراها النّاس هادئةً جميلة، يقولون عنها “الساكنة” ولكن ماكان هدوئها بالنسبةِ لنا إلا هدوء الموت الذي حملناه في صدورنا من قبل.
كان كل ما نراه إنعكاس لما بداخلنا، فما رأينا من جمالها شيء.
وذات يوم خرج “صدّام” الابن الأكبر لأختي إلى السوق، فسمعنا أصوات الانفجارات والقصف في أطراف مَسكنة.. وقفنا نمسك بقلوبنا في أيدينا.. نُردد الأدعية.. يارب استرها.. يارب مايكون في ضحايا.. يارب ارحم قلوب الناس وأعنهم..
تستدركُ كلامها، وفي هذه الأثناء يرن جرس الباب.. نُسرعُ لِفتحهِ مُتثاقلين..
أصوات من الخارج.. “عظّم الله أجرك يا أم صدّام”، لم تُصدّق أختي الخبر، وأجابت: “يا جماعة صدّام ما مات، إنتو أكيد مخربطين، صدّام أصلاً راح يجيب الغدا وهلق رح يرجع، يعني هو أصلاً ماراح ع مكان القصف”
تقول لنا أم صدّام بكلماتٍ مختنقة: جلستُ أنتظر.. لحظاتٌ مُثقلة تمرُّ كأنّها دهراً.. أنتظر صدّام ليدخل عليّ حياً أو جثّة!
تستدرك أختها: “الكارثة إنه صدّام مادخل علينا لا عايش ولا ميّت، لأنّه كان شقف ونتف، مافي شي بجسمه ع شي!”.
وبسبب تلك الظروف التي تزدادُ ألماً وضيقاً على أم صدّام اضطرت لتزويج بناتها الأربع..
وفي عام ٢٠١٨ مأساة أخرى تنالُ من قلب أم صدّام لتحتمل بعدها عبء أطفال أخيها الذي قُتل خلال انضمامه لأحد الفصائل وترك خلفه أربع من البنين، ولأنّ أم صدّام هي الأخت الكبرى فلها النصيب الأكبر من العبء في كل مُصيبةٍ تنال منالها من العائلة..
تتزوج سُها “اسم مستعار” (زوجة أخيهم المقتول) من رجل خليجيّ وتترك للجدّة والأخوات الثكالى الأرامل عبء تربية أطفالها الأيتام..
فكان من نصيب أم صدّام تربية طفلين من أطفال أخيها لينضموا للعائلة التي باتت ثلاثٌ من أبنائها أحدهم مُصابٌ بمرض عقليّ، وأطفال أخيها “إلياس، ١٣ عاماً” و “موسى،١١ عاماً”. وتمضي أختها عفاف و والدتها لمخيم دير حسّان، تتكفل إحدى المنظمات بإعمارٍ غرفةٍ لهن، وتبقى أم صدّام كما الحال دائماً حينما وصل التسجيل عند عائلتها توقف الدعم وانتهت قائمة التسجيل فبقيت مع الأطفال الخمس في مسكنة.
تكمل أم صدّام والتي بلغت من العمر ٤٨ عاماً تعب الاعتناء بيوسف صاحب الإعاقة العقلية.. وحينما سألناها عن طريقة تعاملها معه.. أجابت: “يوسف كان عنده مرض بعقله، ما بيعرف يعبّر عن وجعه، مابيعرف يحكي شو محتاج..
كان يشلح أواعيه كلها وينام عالبلاط..
السنة الماضية ب ٢٠٢٠ كانت أمي وأختي عندي زيارة، فقت الصبح عم دوّر على يوسف ما كنت لاقيه، طلعنا ع الحارة، نسأل الجيران ما إله أثر..
الدنيا برد وشتا، كنت خايفة عليه، مابعرف كيف أسأل عنه، أكلت هم شلون بده يعبّر، هو أصلاً يمكن ما بيعرفنا، بينساني إنّي إمه.. بعد ما لفينا الحارة وما خلينا مكان ندور فيه دخلت أختي تدور مرة تانية بالبيت، بلكي متخبي بشي قرنة”.
تتعلثم الأم بالكلام.. تتساقط الدموع على وجنتيها اللواتي أرهقتهنّ حرارة الدموع والتي شكّلت مسارات واضحة بيّنة في وجهها.. تُكمل”عفاف، الأخت الصغرى” كنا راجعين زيارة عند أختي، اجيت فتحت باب الحمّام لألاقي يوسف شالح كل أواعيه، جسمه أزرق، بااارد كأنه قالب تلج، لما اجيت بدّي فيقه كان جسمه تقيل، رجف قلبي لأنه تأكدت إنها مصيبة جديدة ع راس اختي، عرفت إنه يوسف مات!
ما بعرف شو قول، شو نادي ع أختي.. لأسمع صوت من وراي: “عفاف، وينك ليش طولتي، لقيتي يوسف”
أجت اختي لقتني عم ابكي ويوسف بين إيدي..
في وسط ذلك الحديث البائس يأتي صوت أم صدّام متعباً، تمسحُ الدموع التي تأبى أن تتساقط من محيط عينيها، تحاول جاهدةً أن ترَ ولو نورٌ خافت من خلالهما، أن تتلمّس الأشياء لتعرِفَ ماهيّتها..
“الحمد لله، توفى يوسف، ارتاح”
تتنهدُ مُثقلةً..
” ارتاح من العذاب يلي أنا ماكنت قدرانة خلصه منّه”.
بعد تلك الفاجعة وضعف نظر أم صدّام الذي بات لا يعينها كثيراً، جسدها النحيل، والحزن الذي يقتاتُ منها شيئاً فشيء.. أصرّت والدة أم صدّام أن تصطحبها للمخيم مع عائلتها وأطفال أخيها إلى مخيم دير حسان..
اشترت بمساعدة بعض الناس أرض صغيرة بالقرب من المخيّم بتكلفة ٢٠٠ دولار، رفعت أربع من الحيطان والتي تشبهُ كل شيء إلا الحجرة القابلة للعيش، وبقي السقف مفتوحاً لا تملك ثمن بناءه، لِتُغطّيه ببعض من الشراشف الثقيله.. تلك الغرفة التي ليس لها باب، وكأنّها كحياتها، تستقبلُ فيها مُصيباتها العِظام..
تقول معلمة أم صدّام (نرجس، ٢٧عاماً): “بالرغم من ضعف نظرها إلا أنها مُصرّة تتعلم، أختها بتقرألها وبتساعدها”، وتضيف نرجس: ام صدّام عايشة على السلّة الغذائية، ويلي ممكن يساعدوها فيه أزواج بناتها كل حين ومين..
بقلم ؛ مريم الرحمون
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع