حمص، سورية- ما تزال المباني التي دمرتها الحرب في حمص؛ المدينة السورية التي لُقبت ذات مرة باسم عاصمة الثورة، تحتفظ بأشباح الثوار الذين قاتلوا هنا.
وفي إحداها، في الطابق العلوي فوق محل دهانات منزوع الأحشاء، كتب المقاتلون أسماءهم على الحائط -أبو عمر، أبو راتب، أبو شريف- تاركين بصمتهم هنا قبل تسليم هذا الحي مع أحياء أخرى حوله إلى القوات الحكومية منذ ما يقرب من عامين، بعد أن تفوقت عليهم بالسلاح والتجويع.
كتب أحدهم على الحائط: “جيب البوظة وطعميني”، وبجوار العبارة، استقر رسم بقلم تخطيط أسود للعلم ذي النجوم الثلاث الذي أصبح رمزاً للانتفاضة السورية. وفي الطابق السفلي، ثمة الثقوب الكبيرة التي أحدثها المقاتلون في الجدران ليتمكنوا من التنقل من منزل إلى آخر من دون أن يستهدفهم رصاص القناصة.
ذهب الثوار منذ فترة طويلة من مناطق المدينة القديمة في حمص حيث كانوا محاصَرين، وكان هؤلاء آخر 2000 مقاتل أُخرجوا بموجب اتفاق توسطت فيه الأمم المتحدة فى أيار (مايو) من العام 2014. لكن معظم العائلات التي كانت تعيش هنا لم تعد بعد. وما يزال الصمت يُغرق شارعاً محطوماً بعد آخر، ولا يكسره سوى صوت الحطام الذي يئن تحت وطأة الريح.
هذا الثقب المتثائب في قلب حمص؛ المدينة التي كان يقطنها ذات مرة أكثر من مليون شخص، هو الشاهد على التحدي الذي تشكله إعادة إسكان وبناء المدن السورية. وهي مهمة يقدر البنك الدولي أنها قد تكلف 170 مليار دولار، والتي ستتطلب جهوداً دولية من حجم خطة مارشال التي ساعدت أوروبا على الانتعاش بعد الحرب العالمية الثانية.
دمرت الحرب المستشفيات وآلاف المدارس وثلث المنازل في البلاد، في حين تستمر في اقتلاع السوريين من بيوتهم. وتركت أوروبا تكافح من أجل وقف تدفق اللاجئين، وتتوصل إلى إبرام صفقة أخيراً لإعادة إرسال الوافدين الجدد إلى تركيا.
ولكن، حتى في مناطق مثل حمص التي كانت مستقرة نسبياً في السنوات الأخيرة، ما يزال الافتقار إلى كل من المال اللازم لإعادة البناء والحل السياسي للأزمة السورية، يمنعان العائلات من العودة إلى المدينة في أي وقت قريب.
هناك الكثيرون ممن يخافون العودة. وكلما طالت فترة بقاء هذه المساحات من الركام على حالها لم تُمس، أصبح سكان الماضي هنا أكثر رسوخاً في حياتهم الجديدة في المكان الآخر.
يقول زياد الأخرس، 43 عاماً، وهو عضو في لجنة إعادة إعمار أحد الأحياء في منطقة باب الدريب المسيحية: “لقد أعاد الناس بناء حياتهم في الخارج. أطفالهم التحقوا بالمدارس. وهم وجدوا لأنفسهم عملاً. إنهم لن يعودوا“.
في الأحياء المسيحية مثل باب الدريب، حيث كان السكان أكثر دعماً للنظام، عادت بعض العائلات. وهنا، جمعت الكنائس التي كانت مدمرة بعض المال من أجل إعادة البناء، ولتقديم المساعدة المالية للأسر التي تريد العودة. وقد أعيد وصل الكهرباء والماء، ولكن الشوارع ما تزال فارغة بشكل مخيف.
لكن ميلاد جمال (36 عاماً)، أعاد فتح مطعمه، مع أنه يقول إن ما بقي هنا هو مجرد ظل للمجتمع النابض الذي كان هنا في السابق.
ويقول: “إنه حينا، ولذلك عدنا”، مضيفا أن أسرته هي واحدة من نحو 800 عائلة في المنطقة عادت إلى مدينتها من أصل 40.000 عائلة غادرتها.
ويقول جمال: “كنا في الماضي آخر من يُغلق وكنا أول من يفتح”. وقد دفع جمال كلفة إعادة بناء المطعم/ المقهى من جيبه الخاص، في حين ساعدته الكنيسة في إعادة بناء منزله. وفي الجوار، حُفِرت حديقة عامة تم استخدامها كمقبرة مؤقتة عندما كانت هذه المنطقة في أيدي الثوار، وقامت الحكومة بإزالة جثث القتلى. وقال الأخرس إنه تم العثور على حوالي 500 منها.
برج الساعة القديم في المدينة، الذي كان ذات مرة نقطة محورية في الاحتجاجات، أعيد بناؤه، وأعادت الحكومة تشغيل الساعة مرة أخرى في احتفال أقيم في العام الماضي في الذكرى السنوية لنهاية الحصار. وفي الجوار، ساعد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في إزالة نحو 70.000 طن من الحطام من منطقة السوق المركزية، وهو يحاول تشجيع أصحاب الأعمال على العودة.
لكن هناك القليل جداً من علامات الحياة في مناطق أخرى من المدينة القديمة، من التي تعرضت للقصف والحصار على مدى ثلاث سنوات. وكان الدمار في المناطق ذات الأغلبية السنية الأكثر تعاطفاً مع الثوار أكثر وحشية، مما يجعل إعادة البناء فيها مهمة شاقة، حتى لو توفرت الإرادة السياسية لذلك.
حي الخالدية، ذو الأغلبية السنية، حيث يقع المتجر ذو الكتابة على الجدران، كان من الأكثر تضرراً من القتال في المدينة. فيه تمزقت السقوف وواجهات المباني. وتقف سقالات البناء حول قبة جامع خالد بن الوليد الذي تم إصلاحه حديثاً لتكون العلامة الوحيدة على إعادة الإعمار في هذه المنطقة.
وقال جندي عند نقطة تفتيش تابعة للجيش إن هناك 20 عائلة تعيش في مكان ما من هذا القفر اليباب الشاحب، لكنه لا يبدو مقتنعاً بذلك. ولم تتم إعادة توصيل المياه والكهرباء في الحي.
وقال جهاد اليازجي، رئيس تحرير “تقرير سورية”، النشرة المتخصصة في الاقتصاد السوري: “من أين تبدأ؟ لا توجد إعادة الاعمار على نطاق واسع لأنها لا توجد مصالحة يعتد بها بعد؛ ولأنه ليس هناك مال، وليس هناك يقين، وليست هناك إرادة”. وقال إن إعادة الإعمار تحتاج إلى برنامج دولي “هائل”، ويمكن أن تحدث فقط بمجرد أن تنتهي الحرب.
من جهته، يلوم جمال، صاحب المطعم، سكان أحياء مثل الخالدية على عدم العودة. ويضيف: “تبدو الحكومة حريصة حقاً على إعادة تأهيل المدينة. الذي يفعل شيئاً خاطئاً سيظل دائماً خائفاً”. ولكن، حتى لو أراد أراد سكان المدينة أن يعودوا، فإنه لا يبدو أن هناك الكثير الذي تمكن العودة إليه.
ويقول اليازجي: “الناس بحاجة إلى ضمانات. ربما يعرف الناس أن أسماءهم ليست مدرجة على قائمة المراقبة على الحدود، لكنهم ما يزالون يشعرون بأنهم سيكونون مهددين جداً إذا عادوا“.
ويقول صموئيل رزق، المدير القطري لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في سورية أن حجم المهمة “هائل”، ووافق على أن هناك حاجة إلى حل سياسي من نوع ما في سورية قبل إمكانية بدء أي مشاريع واسعة النطاق لإعادة الإعمار.
في الوقت الحالي، يركز برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على الجهود صغيرة الحجم لبناء سبل العيش والانتعاش الاقتصادي، أملاً في وقف تدفق المهاجرين إلى أوروبا.
ويقول رزق: “هناك الكثير من الناس الذين يغادرون لأسباب أمنية. لكن الكثير من الناس يغادرون أيضاً لأسباب تتعلق بالفرصة“.
مع ذلك، ما تزال حمص مدينة على حافة الخطر. فقد انفجرت ثلاث سيارات مفخخة في حي الزهراء في المدينة أواخر العام الماضي، مما أسفر عن مقتل العشرات. وسمح اتفاق العام 2014 لبعض الثوار بالبقاء في حي الوعر في المدينة، حيث تم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في كانون الأول (ديسمبر) للسماح لهم بالرحيل.
مركز الشرق العربي