في نص استثنائي لجيل دلوز، يقع في عشر صفحات أو أكثر بقليل، ولا أظنه معروفا للكثيرين؛ يحلل هذا الفيلسوف الفذ نفسية لورنس العرب، سواء في علاقته بالصحراء أو بأهلها العرب؛ بأدوات رسام طبيعة ماهر لا يفوته شيء من مجلى الألوان وسلمها. ولولا ضيق هذه الفسحة، بحكم الحجم المقدر للمقال، لنقلت هذا النص كله إلى العربية، ولقارنت بين دلوز ومواطنه الفرنسي الشاعر الكاتب الرحالة جاك لاكريار؛ عسى أن ندرك حاجتنا إلى عين ثالثة نرى بها أنفسنا؛ عين تدرك من الصحراء ما لا يدركه أهلها الأدنون.
يسم دلوز مقاله بـ«العار والمجد: لورنس»، وهذا العنوان هو مجرد باب مشرع على متاهة هي متاهة الصحراء تلك التي قال عنها بلزاك إنها «الإله بدون البشر»، ولكنها عند صاحبنا منفذ إلى إدراك العرب أنفسهم. ثم يأخذ بأيدينا في تؤدة، إلى عالم الصحراء، حيث نستشعر لحظات من السحر، في ضوء شفيف صاف خالص. هو ضوء لامرئي، لا لون له، ولا شكل؛ كأنه ماء.. بيْد أنه ماء لا يلمس. أما لماذا؟ فلأن الضوء هو «الفكرة» بعبارته وقد كتب الكلمة بحرف التاج، أو هو الله «إله العرب.. وليس ثمة في الحياة الثانية (الآخرة) سوى الهواء الشفيف». والضوء هو الفتحة التي تصنع الفضاء، وليست الأفكار سوى قوى نافذة تجري فيه، أو في الضباب الشمسي الذي يعْمر الصحراء ويغمرها؛ وهو من الهباء، ولكنه الهباء الذي يدوم ويعمر.
لنقل معه إنه السراب حيث الأشياء تصعد وترتفع، وتهبط وتنزل كما لو أنها بفعل مكبس أو كباس؛ هي والناس الذين ترتفع أجسادهم بقوة الإرادة وحدها، وهم معلقون في حبل ما بين الأسود والأبيض. أما الأسود فكلما بسط الظل سلطانه، وغاض الضوء، وأما الأبيض فمتجدد أبدا في الصحراء. وهذان اللونان هما اللذان يحويان العالم العربي بعبارته: الأبيض الذي يصفر، والأسود الذي يزرق؛ في مجرى ألوان تتراشح منهما وفيهما وتتوالد، أو هما الرمل والسماء. وكل هذا وقد اختزلته، إنما يدركه دلوز بعين لورنس «أحد أكبر رسامي الطبيعة» كما يصفه. لون الصحراء عند هذا الإنكليزي عدول وحركة وتحول. وأجمل الكتاب هم الذين يمتلكون شروط إدراك خاصة، تمكنهم من صياغة مفاهيم جمالية باعتبارها رؤى حقيقية. وليس هذا بالمستغرب عند لورنس الذي يتكلم العربية، ويلبس لباس العرب، ويعيش عيشهم في حلهم وترحالهم. وحتى في لحظات التعذيب، كان يصرخ ويتأوه بالعربية. ومع ذلك هو لا يقلد العرب، ولا يتنصل أبدا من اختلافه الذي يكابده من حيث هو خيانة. وليس مرد اختلافه هذا إلى ما بقي فيه من الإنكليزي الذي هو في خدمة إنكلترا، وإنما هو إنكليزي بقدر ما يخون بلاد العرب، في ما يشبه حلما كابوسيا، بل هي خيانة لكل شيء في آن. ولعلها صورة من صور الذات أو حالة من حالاتها، وهي تنشُد أن تعيش حياتها كما هي، أو ربما هي مس خيالي أو شيء من «المؤسطِر» أو نسيج أمور وهمية وروايتها. على أن راويها يظن أنها حقيقية، أو هي لم تنغمس في شبهات الظن، ولورنس يقول إنه يرى من خلل الضباب، ولا يدرك الأشكال والألوان، ولا يتعرف على الأشياء، إلا حين يتواصل معها مباشرة، بل يعترف بأنه لم يكن قط رجلا نشيطا، وأنه يصرف اهتمامه إلى الأفكار، وليس إلى الغايات ووسائلها، وأنه ليس أخا مخيلة؛ فهو لا يحب الأحلام. وفي هذه الصفات التي تُعد «سلبية» أو سالبة، ما يشده إلى العرب. وقد استغربت مثل هذه الإشارة، خاصة أن العرب ينعتون عادة ـ وبشطط ــ بأنهم جنس من الحالمين أو العاطفيين، أو هم من ذوي الأهواء والأمزجة المتقلبة. ثم وجدت أن لها مسوغا في شعر العرب الأقدم، وهو مجلى الروح؛ فقد قام هذا الشعر على ناحيتين هما المقاربة في التشبيه والإصابة في الوصف، وليس على الاستعارة؛ ومرتكز هذين إنما هو العقل، إذ هما قياس وموازنة.
على أن لورنس يقول إن ما يلهمه ويفتنه أن يكون «حالم النهار» أو الحالم المستيقظ، ومثل هذا الصنف خطر في الواقع، إذ هو لا يتحدد بالنسبة إلى علاقته بالواقع أو بالفعل، ولا بالنسبة إلى الخيالي أو الأحلام؛ وإنما بالقوة التي يستطيع بوساطتها أن ينشر مختلف الصور التي انتزعها من نفسه، ومن أصدقائه العرب. والسؤال ما إذا كانت تنطبق عليهم حقا؟ يقول دلوز إن الصورة التي ينتزعها لورنس من نفسه ليست مختلقة؛ ذلك أنها لا تجيب بنعم أو لا عن واقع سابق الوجود. إنما هي من صنع الواقع، وليست إجابة عنه أو استجابة له. ولا شيء وراء الصورة، سوى «غياب أن تكون» أو الفراغ الذي يشهد لذات هي إلى زوال. ويجري هذا كله على الرغم من أن في «أعمدة الحكمة السبع» سِفْريْن كلاهما قرين الآخر: واحد مداره على صور الواقع أي تلك التي تعيش حياتها هي في كونها الخاص، والآخر مداره على الفكر الذي يتملاها ويتأملها، مستغرقا في تجريداته الخاصة. وهل التجريدات سوى عيون الفكر؟ والفكر جسم كله أحداق. ولورنس يؤكد انشداده إلى المجرد، وهو ما يشاطر العرب فيه. يقول: «أنا خادم المجرد». وفي هذا تكمن قدرة لورنس على جعل الناس والأشياء والذوات تعيش بشغف وولع، على وقع إيقاع الجمل في حركته المهتزة المتقطعة. وهو مما يضفي على لغته طابعا فريدا أشبه بصدى يتردد في نصه، وكأنه يصدر عن لغة غريبة تتجاوب فيه. وهي بعبارة دولوز «إنكليزية لا تسيل»، بل هي رمية نرد، و«حرص صحراوي» أو»رغبة الغبراء» (استخدم دولوز جناسا يصعب نقله إلى العربية، ومع ذلك حاولته في هاتين العبارتين).
شيئان ألهما لورنس في علاقته بالعرب، هما العار والمجد أو الغبطة، أو الخزي أو الخيانة والحياء، وهو الرجل الذي خلع عذاره. ولم تكن غبطته غبطة الصالحين، ولم يكن ليخجل أو ليستحي إلا من خيانته هؤلاء العرب؛ وهو الذي ظل يعدهم، وهو يؤكد لهم وفاء الإنكليز بوعودهم، على الرغم من معرفته أنهم لن يفوا بها أبدا (دخول دمشق مثلا). وأما العار فهو من أن يعلم الحرية القومية، أناسا من أمة أخرى. كان لورنس يعيش باستمرار بصفة نصاب متحايل، وهو مع ذلك يستشعر نوعا من النخوة أو الفخر وهو «يخون» قليلا عِرقه وحكومته؛ إذ هو كون أنصارا بمقدورهم أن يلزموا الإنكليز على الوفاء بوعودهم، وهو يرى هؤلاء العرب «الشرفاء جدا، الوسيمين جدا، الساحرين جدا، على طرف النقيض من الجنود الإنكليز.. كان يشعر بالخجل من العرب، ومن أجل العرب، وفي مواجهة العرب. الإنكليز والأتراك والعالم كله يزدريهم؛ لكن كما لو أن هؤلاء العرب ذوي الأنفة، المرحين، كانوا يثبون خارج العار؛ ويلتقطون الرؤية والجمال… إنهم يحملون إلى العالم حرية غريبة، حيث المجد والعار، في مواجهة روحانية جسما لجسم». وهذا ما يؤكد أن سؤال الأعمدة السبعة هو كيف تعيش في الصحراء، وتقاوم وتصمد، لتحيا بصفتك ذاتية أخرى.
هذا بعض ما كتبه جيل دلوز عن لورنس العرب أو عرب لورنس، وعن الصحراء التي هي مجْلَى ألوان من الأحمر الرماني والخبازي والأرجواني، وانتقال إلى البنفسجي؛ وكأنها حد النهار أو نهايته، وليست مسطحا غُفْلا ولا هي فيض من الكثبان، بل هي صور مجبولة من الحجارة والشواطئ الصخرية ورؤوس الجبال، تنهض بين ألق السيليس ولمعان الصوان.. الصحراء لغه منشدة إلى الأضواء والظلال؛ لا يقدر على تهجيتها إلا رسام طبيعة مثل لورنس، أو شاعر مثل جاك لاكريار، يترجم الريح إلى كلمات من الصوان والجبس، وأن يسير فيها، وهو لا يدري أين يتوقف؛ مادامت تدعوه إلى دغل هنا، أو بئر أو ناعورة هناك؛ حيث تلوح أقواس قزح بشرية: نساء صحراويات يرتدين الأبيض والأحمر والأرجواني. في الصحراء العامرة بالحياة، يعلو غناء عجوز أعمى حذو النار، ملتفا بالليل؛ يستسلم المرءُ لنفسه، ويتعرى المكان وهو الفقير المعوز، من كل شيء، وكأنه صفاء الزمن وشفافيته.. حيث لا شيء يعدل عري الأفق الذي يجلو رؤانا على لوح السماء والرمل.. حيث النشيد الصحراوي الذي يسلخ اللحم وكأنه»طقس من الأسرار القدسية أو تكريس الملائكة». يقول لاكريار وكأنه يستأنف نص دلوز: «في الصحراء، أدرك لماذا يُعتبر الإسلام ديانة الكتاب، لا بسبب الكلمات التي تضمها الكتب، وإنما لأن الكتاب إنسانيا، هو ما يعنيه الرمل والصحراء إلهيا: فهو مَجْلَى صراع بين الضوء والظل، بين بياض الورقة وسواد الحبر. إن كتابة الصحراء مصنوعة من ظلال وأضواء، ومن علامات الحبر والنار المختومة على الأرض البيضاء أرض الصفحات».