لم تسمَّ الثورة ثورة عن عبث، بل لأنها تجمع في مضمونها حالة انتفاضةٍ وتحدٍّ لكل تصرّفٍ جاهلٍ معيقٍ لتقدم المجتمع وتطوره.. سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو غيرهم.
وهذا ما حدث مع عائشة، الفتاة الريفية البسيطة، ذات التصرفات العفوية التي تحمل بين طياتها وعياً وفكراً تحرّريّاً، ليس بالمعنى السلبي للمصطلح.. إنما بالتحرر من الأفكار والعادات السلبية التي لا تستند إلى أسس علمية أو منطقية.
نشأت عائشة في أسرة تقليدية، في إحدى قرى ريف حلب الغربي، لتجد نفسها في سن الثالثة عشر ربيعاً مسماة لابن عمها، فهذه هي أعراف القرية عندهم، منذ أن تولد الفتاة يتم تسميتها “أي اختيارها عروساً” لأحد أبناء عمها.
لم يكن لها رأي بالموافقة، لا هي ولا ابن عمها الذي ستُزف له، كلاهما ملزمٌ بالآخر، فقط لأن والدهما قرارا ذلك، فهما رغم صغر سنهما على الزواج لا يريدان بعضهما، ولا يكنّان لبعضيهما إلا مشاعر الأخوة، لكن سلطة العادات والتقاليد فوق إرادتهما.
لم يحدث في تاريخ تلك القرية أن رفض أحد العروسان الآخر، فالفتاة إن رفضت اتهمت بالوقاحة والجرأة التي من الممكن أن تصل إلى حد القتل، أما الشاب فملزمٌ بالزواج من ابنة عمه مع مراضاته بالزواج بأخرى من اختياره.
لم يكن خطيبها راضياً بها عروسا فظلّ يماطل بحجة إكمال تعليمه، وكان ذلك من حسن حظها لتكمل هي الأخرى تعليمها، حتى حازت على الشهادة الثانوية، هنا بدأ أهل العروسين بالضغط عليهما ليتزوجا، فهما في عرف القرية قد تأخرا كثيراً، وبينما هما في حيرةٍ من أمرهما، اشتدّ القصف واجتاحت قوات النظام قريتهما، ليضطر الجميع إلى النزوح وتفرقت العائلات.
تروي لنا عائشة ماذا حدث معها عندما واجهت أهلها برفض الزواج من ابن عمها: “يومها كان أصعب يوم بحياتي ضربوني وكبلوني وحبسوني بالخيمة اللي نزحنا عليها ومنعوا عني المي والأكل.. حتى تظاهرت بالموافقة واعتذرت منهم”
فما كان من عائشة إلا أن اتصلت بخطيبها ترجوه أن يعبر إلى تركيا، هرباً من الزواج، فيخلص نفسه وإياها من قدرٍ مفروضٍ عليهما ليس لهما فيه أي رضا أو موافقة.
وبالفعل ماهي إلا أيام حتى جاءهم خبر هروب العريس إلى تركيا، ليسارع بعدها بالاتصال بأهله يخبرهم برفضه الزواج من ابنة عمه، وأخبر أهل خطيبته بذلك أيضاً.
كان وقع ذلك الحدث على العائلتين شديد، ففي عُرف القرية الفتاة التي يرفضها ابن عمها لن يتقدم أحد لخطبتها، اعتقاداً منهم بأنها سيئة.. وهذا ما أرادته عائشة.. فقد استطاعت إقناع أهلها بأن تكمل دراستها حتى لا تبقَ عبئاً على أحد عندما تكبر، فهي باعتقادهم ستقضي عمرها بدون زواج بعد أن رفضها أهلها.
وها هي عائشة الآن بعد أن تخرجت من معهد إعداد المدرسين قسم اللغة الانكليزية، تعيّنت في إحدى مدارس القرية، لتخطب لأحد زملائها المعلمين في المدرسة، وتحصل على حقها في الاختيار أو الرفض.
صحيحٌ أن ما ساعد عائشة وقوف ابن عمها بجانبها.. وإنقاذ نفسه وابنة عمه من حياة كانت ستبنى على البؤس، والرفض والتعاسة الأبدية، إلا أن لإصرارها وسعيها لتغيير واقعها حقق ثورةً اجتماعية في محيطها، لتصبح فكرة رفض التقاليد والعادات السيئة مستساغةً ولم تعد قدراً محتوماً لا يمكن تغييره.
تقول عائشة في نهاية حديثها: “مارح أسمح لأولادي في المستقبل يعملو شي مو مقتنعين فيه.. رح وقف معهم وأدعم اختياراتهم.. لن تحكمنا عادات وتقاليد بالية بعد الآن”
قصة خبرية / إيمان هاشم
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع