قبل ثلاثة أيام من نهاية سنة “تشف” ونقماتها، سنحظى ببضع لحظات من الراحة في احتفال التوقيع على اتفاق السلام مع الإمارات، لحظات تحلي ولو قليلاً نهاية السنة المريرة هذه. بالتوازي معنا وبمتعة أقل بكثير، سيشاهد الناس الذين في رام الله وغزة، وفي طهران ودمشق أيضاً، تلك الصور من ساحة البيت الأبيض، وسيتساءلون من ستكون حجر الدومينو التالي الذي سيسقط في العالم العربي ويعترف بإسرائيل، وهل سيصل هذا في النهاية لصديقتهم قطر أيضاً.
من مكان مقره العميق تحت الأرض في بيروت، سيشاهد حسن نصر الله الاحتفال، وسيشعر بعزلته أكثر فأكثر. فقبل أسبوعين، دخل إلى العقد السابع من حياته، ولم يعد كل شركائه في الطريق معه: يد يمينه ومفكره الاستراتيجي، عماد مغنية، صفي في 2008؛ بعد سبع سنوات من ذلك بعث إلى الموت بالابن أيضاً، جهاد مغنية؛ يد مجهولة اقتطفت له حسن لقيس، رجل التكنولوجيا والمشتريات في 2013؛ هو نفسه صفى شريكه في الطريق مصطفى بدر الدين في 2016؛ وفي بداية السنة فقد سيده الداعم، قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني. ليس له الآن من يتشاور معه.
إيران المنهارة تحت العقوبات تجد صعوبة في الدعم الاقتصادي لأعضاء المحور، والبديل الذي عينته لسليماني – إسماعيل قآني، لا يقدر على تثبيت التوسع الإيراني مثل سلفه. في هذه الوضعية، ادعيت هنا قبل أسبوعين، بأن نصرالله يجد نفسه الراشد الوحيد بين زعماء المحور، والوحيد الذي اصطدم بإسرائيل، ولكني شككت في أن يكون هو أيضاً راشداً مسؤولاً. أما شعبة الاستخبارات “أمان” كما تبين لي، فتعتقد أن نعم.
في جملة من المقالات التي ستنشر في الأيام القريبة القادمة، يكتب باحثان كبيران، هما العقيد غاي ود. كيرن، بأن نصر الله يتطلع لأن ينسب نفسه الراشد المسؤول للبنان، الذي يحرص على مصلحته ومصلحة مواطنيه، أكثر مما يحرص على الطائفة الشيعية وإيران. بزعمهما، فإن الشرخ الاقتصادي في إيران الذي قطع ميزانية حزب الله بالنصف إلى جانب الاحتجاج المتزايد في لبنان ضد التنظيم، أديا إلى تغيير في مفاهيم نصر الله، وهو اليوم براغماتي أكثر وحذر من المخاطر.
إن الاحتجاج الذي اندلع في لبنان في تشرين الأول 2019، رداً على “ضريبة الواتساب”، يعكس بزعمهما تشكلاً وطنياً لبنانياً جديداً، ويفك ارتباطه عن الانتماء الطائفي. انطفأ الاحتجاج مع تفشي كورونا، ولكنه عاد ليتفجر مع الانفجار في ميناء بيروت، حدث يطوي في داخله كل أمراض الدولة اللبنانية: 2.750 طناً من نترات الأمونيا (التي لا تعود لحزب الله) صودرت وأبقيت في الميناء إلى جانب 15 طناً من الألعاب النارية، وحاويات نفط والأحماض – خليط يصبح قنبلة كاملة.
هذا الانفجار ضرب لبنان، وهو يعاني الآن من 40 في المئة بطالة، ويعلن عن انعدام القدرة على تسديد الديون ويعاني من تضخم مالي بمعدل 112 في المئة. يقدر الضرر جراء الانفجار بعشرات مليارات الدولارات، وليس هناك من يساعد. عرض صندوق النقد الدولي المساعدة، ولكنه اشترطها بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات العميقة في الدولة اللبنانية الفاسدة.
كثير من المتظاهرين الذين خرجوا مرة أخرى إلى الشوارع كانوا شيعة، وليسوا مسيحيين أو سُنة. ويدعي الباحثان العقيد غاي ود. كيرن بأنهم يعكسون تطلعاً واسعاً في لبنان لنظام جديد، وخلق دولة فوق طائفية، وإن نموذج القدوة لها أوروبي وليس شرق أوسطي. ويفهم نصر الله بأن الخلاص لن يأتيه من السعودية، التي تبعد يديها عن لبنان، ولا من الصديقة الجديدة لإسرائيل – الإمارات. وكان الرئيس ماكرون هو الوحيد الذي وقف في بيروت بعد الانفجار، وسيطلب لجماً وبراغماتية من نصر الله. دليل على ذلك كان يمكن أن نراه هذا الأسبوع في المحادثات على ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، حيث طرأ تقدم مفاجئ، وثمة احتمال جيد بأن تنتهي بالتوافق.
ضوء جديد في الأفق
ومع ذلك، يصر نصر الله على حقه في قتل جندي إسرائيلي كانتقام على موت لبناني في دمشق، لبناني ولد في السعودية وثمة شك أنه يعرف أحداً ما في حزب الله.
فلماذا يحتاج نصر الله إلى المخاطرة بمواجهة مع إسرائيل بسبب موت مجهول في دمشق، بل وعلى خلفية الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية – الصحية في لبنان؟ تؤمن شعبة الاستخبارات “أمان” بأنه يرى في إسرائيل تضرب الإيرانيين والأسد في سوريا، فأراد أن يطلق الإشارة بأنه لن يوافق على امتصاص الضربات دون رد. بتقديري، يشخص ضعفاً إسرائيلياً ويؤمن بأننا مردوعون من رد حازم. في هذه الأثناء يستمتع بإبقائنا متحفزين، نقف “على رجل ونصف” مثلما يقول. شمالنا يتصرف ظاهراً كالمعتاد، في جانبه المدني. ولكن 50 يوماً من التأهب في قيادة المنطقة الشمالية تبدأ بلمس المدنيين. فالسكان في الشمال يشتكون من أنهم لم يعودوا يروا جنوداً ودوريات على الحدود، وأن إحساسهم بالأمن الشخصي تضرر. وبتأخير ما، أعلنت إسرائيل بأن ضربة ذات مغزى للجيش الإسرائيلي ستستجاب في ضربة للبنى التحتية في لبنان، ولكن نصر الله لا يزال يقدر بأنه إذا أصاب جندياً فسيكون الرد الإسرائيلي منضبطاً. وهو على ما يبدو محق: سينجح حزب الله في النهاية في إصابة جندي، وسترد إسرائيل بشكل محدود.
يؤمن الجيش الإسرائيلي بأن الرد على نار القناصة نحو قوة في منيرا – هجوم على موقعي رقابة – فاجأ حزب الله وأوضح له بأن إسرائيل مستعدة لتعزيز الردع. بتقديري، قد يكون الرد مفاجئاً، ولكن نصر الله مستعد للمخاطرة ويتحدانا.
ما يقلقه أكثر من أي شيء آخر هو الأزمة الاقتصادية. مع ميزانية 600 مليون دولار، نحو نصف الميزانية التي كان معتاداً عليها، يصعب عليه دفع الرواتب ودعم المعاقين والعائلات الثكلى من الحرب في سوريا. وبينما سيرمز احتفال السلام مع الإمارات إلى ضوء آخر انطفأ بالنسبة له، فإن 18 تشرين الأول سيكون موعداً لضوء جديد. هذا هو اليوم الذي ينتهي فيه حظر الأمم المتحدة على بيع السلاح لإيران.
لا تزال الولايات المتحدة تحاول إقناع أعضاء مجلس الأمن على إعادة فرض العقوبات على إيران، ما يسمى “سناب باك”، ولكن دون نجاح. الصين وروسيا تريان الآن كيف تبيعان أسلحة متطورة للإيرانيين، وسيصل هذا السلاح في النهاية إلى حزب الله. ويعتزم ترامب أن يصل هو نفسه ليتحدث أمام الجمعية العمومية الجديدة للأمم المتحدة، التي ستعقد في معظمها بالفيديو، ولكن مشكوك أن يغير هذا ميزان القوى، فهذه المعركة تبدو ضائعة.
يمكن للولايات المتحدة أن تفرض بنفسها مزيداً من العقوبات على كل من يتاجر مع إيران. ولكن انتهاء الحظر سيبث ريحاً في أشرعة الجمهورية الإسلامية وتطلعاتها النووية. العالم كله سينتظر نتائج انتخابات الولايات المتحدة قبل أن يقوم بخطوات مهمة مع إيران. إذا انتخب لولاية أخرى، يمكن لترامب بعد أن يتحرر من اعتبارات إعادة انتخابه أن يفرض على إيران اتفاقاً نووياً جديداً وجيداً. إذا انتخب المرشح الديمقراطي جو بايدن، الذي يعِد بالعودة إلى الاتفاق النووي لأوباما، سنعود كلنا إلى شرق أوسط قديم وغير جيد.
بقلم: ألون بن دافيد
نقلا عن القدس العربي