روسيا تدافع عن النظام السوري بكل ما أوتيت من قوة, والمقصود بكلمة القوة هنا, الكلمة بالمعنى الموسع, وتشمل القوة السياسية والقوة العسكرية, والقوة الاقتصادية, إلى جانب قوة الآلة الإعلامية الروسية الرسمية, التي تتبنى ومن اليوم الأول لاندلاع الثورة السورية رواية مشابهة تماما لتلك الرواية التي يقصّها الإعلام السوري عن أبعاد المؤامرة الكونية التي تستهدف سورية كدولة, ومحور المقاومة والممانعة كجبهة إقليمية فاعلة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
روسيا تدافع عن سورية, يبدو أن هذه العبارة لم تعد مجرَّد كلمات متراصفة إلى جانب بعضها البعض فحسب, بل إنما هي مسلَّمة من مسلَّمات واقع الثورة في سورية, أو كما يحلو لوسائل الإعلام المختلفة تسميتها “بالحرب في سورية”, ولكن ما هي الدوافع الكبيرة التي تدفع بعجلات “القاطرة السوفيتية البخارية الشهيرة” إلى التقدم والتورط في المستنقع السوري؟
كانت صحيفة “ديلي ميل” قد نشرت في وقت سابق صورا تدل على أن القوات الروسية متواجدة فعلا على الأرض في سوريا, وذلك قبل أن تعلن وزارة الدفاع الروسية بدء المهام القتالية لسلاح الجو الروسي في سورية فيما سمّاها رئيس الدولة الروسية “بالحرب على الإرهاب في سورية”, حينذاك كانت المبررات هي أن هذه القوات الروسية هي عبارة عن مجموعة من الضباط الروس العاملون في سورية, وفي القاعدة الروسية في طرطوس تحديداً على الساحل السوري, وبالنتيجة فإن هذا التواجد هو تواجد “شرعي” على حد زعمهم, لأنه يخدم المصالح العسكرية الروسية في القاعدة المذكورة التي شرعن النظام السوري وجودها في سورية أيضا منذ زمن طويل تقريبا.
وفي التوقيت نفسه بدأت بعض التقارير المحسوبة على جهات شبه رسمية تتحدث عن شحنات إضافية من الأسلحة المتطورة تتدفق من روسيا ليتم تسليمها إلى نظام الأسد, وأيضا كانت صحيفة “فورين بوليسي” قد حصلت في وقت مماثل على صور من الأقمار الصناعية, تؤكد حينها حجم البناء الذي يتم في مناطق محددة من الساحل السوري من أجل غرض استيعاب القوات الروسية الإضافية والطائرات التي خططت الحكومة الروسية لاستقدامها إلى سورية بأقرب فرصة مناسبة, إلى جانب الحديث عن نية الحكومة الروسية بتزويد حكومة النظام السوري ب200 ألف طن سنويا من الغاز المسال من ميناء “كيرتش”, وهو ميناء في شبه جزيرة القرم, ضمته روسيا من أوكرانيا في “مارس-آذار-2014 “.
إذن النية الروسية بالتدخل العسكري المباشر وتوسيعه في سورية إلى جانب نظام الأسد هي خطط معدة مسبقا خصوصا بعد أن أشارت إليها صراحة المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية “ماريا زاخاروفا”:
“لقد قمنا بتزويد سوريا بالأسلحة والمعدات العسكرية لفترة طويلة.. ولا نستطيع أن نتفهم سبب الهيستيريا المعادية لروسيا بسبب هذا الأمر”.
بقي الدعم الروسي مستمرا لنظام الأسد والذي كان على شكل تقديم المستشارين العسكريين والقروض, والغطاء السياسي في مجلس الأمن الدولي, إلى إن ارتأت القيادة الروسية التدخل العسكري المباشر إلى جانب قوات النظام بعد أن أحَّست بالخطر الذي بات يهدّد الثقل المركزي للنظام في الساحل السوري عقب تحرير كامل محافظة إدلب من قوات النظام وبشكل كامل, وهنا حدث التغيير الجوهري في شكل المشاركة الروسية في الحرب السورية بالتدخل الجوي المباشر في نهاية العام 2015.
جاءت هذه الخطوة بعد قيام الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بالترويج لتشكيل حلف موسع لمحاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” على الأرض السورية, وبذلك نجح “بوتين” في إقناع العالم بأن روسيا هي الشريك الأساسي في الحرب الدولية التي تدعمها الولايات المتحدة ضد “الدولة الإسلامية”.
الخطة سارت بنجاح, روسيا تقصف في سورية من تريد, والقصف يطال خصوم النظام السوري جميعا دون استثناء, والمستفيد من ذلك هو النظام السوري فقط والذي بدأ بإعادة ضبط أنفاسه لكسب العديد من الأراضي التي خسرها في السابق على حساب كل من قوات المعارضة وتنظيم الدولة الإسلامية أيضا
الموقف الروسي من التدخل في سورية هو موقف يرمي وبكل أبعاده إلى إحداث حالة من التوازن الدولي بين روسيا والغرب بالشكل الذي يضمن إعادة بناء جسر التوازن في التعاطي مع الغرب بشان الملفين الساخنين المهمين لروسيا في كل من سوريا والأحداث السابقة التي جرت في شبه جزيرة القرم.
وبالعودة للحلف الروسي مع النظام السوري, يعرف “بوتين” جيدا ومن تجربة أوكرانيا أن التورط في الحرب السورية إلى الدرجة البعيدة جدا, ربما لن يكون مجدياً لروسيا في المستقبل البعيد وخصوصا أن الموقف الأميركي قد يبدو ضبابيا, وفي كثير من الأحيان يبدو وكأنه “فخ” قاتل يقوم باصطياد الموقف الروسي الخاطئ في الأرض السورية, لكن المصالح المتبادلة بين روسيا ونظام الأسد, هي ليست كغيرها من المصالح المتبادلة لروسيا مع أي دولة أخرى وخصوصا في قلب الشرق الأوسط, فسوريا وعلى مدار 56 كانت البوابة الأساسية لنفوذ “الإتحاد السوفييتي” سابقا ورسيا حاليا إلى المياه الدافئة في قلب الشرق الأوسط.
كانت سورية ملجأ للعديد من المواطنين الروس إبّان الحرب الباردة حيث انتقل عشرات الآلاف من الروس إلى سوريا في حين درست النخب السورية التابعة لنظام الأسد في المدارس الروسية العليا, وعند اندلاع أحداث الثورة السورية في آذار عام 2011 كان يعيش في سوريا ما يقدّر ب 100.000 من المواطنين الروس, إلى جانب كل ذلك يبرز حجم الاستفادة الروسية من إبرام الصفقات التجارية العسكرية مع “نظام الأسد الأب والابن” إلى أرقام بعشرات مليارات الدولارات خلال عدة سنوات, وتعد سوريا هي موطئ القدم الرئيس لروسيا في المنطقة, فهي بالنسبة لروسيا ليست كبقية دول المنطقة كالأردن مثلا, وأي تغيير للنظام في سورية, هذا يعني أن الروس سيخسرون القاعدة العسكرية الوحيدة المتبقية لهم في المنطقة والعالم, لذلك بدأ الرئيس “بوتين” يسعي لموازنة توسع الأسطول الروسي في البحر الأسود, والحفاظ على قاعدة طرطوس في البحر المتوسط بالشكل الذي يُخرج روسيا بشكل القطب القوي إلى الواجهة الدولية من جديد.
نعلم جيدا أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يشكل حاليا حجر الزاوية في بناء السياسة الروسية الجديدة حول العالم, فقد وجد “بوتين” أيضا في سورية بوابة يستطيع من خلالها التغلغل أكثر في كسب التأييد الداخلي له في روسيا, عن طريق تكرار دعوته التي كان قد أعلنها في أوكرانيا بحماية الأقليات الروسية هناك, إلى إعلان حماية الأقليات في سورية, مقنعا نفسه وجماهيره بأن الأكثرية في سورية هي أكثرية خطيرة على جوارها مستشهدا بالأحداث التي كانت قد حصلت في الشيشان, وهذا ما أعطاه مباركة الكنيسة “لعدوانه” السافر على الشعب السوري الأعزل.
ولكن السؤال الأبرز:
إلى أي حد يستطيع الروس التورط في الحرب السورية, وإلى متى؟
من الواضح أن روسيا انقادت إلى الحرب في سورية, ودخلت بشكل مباشر إلى جانب شركائها الإيرانيين, رغم أن المشروع الإيراني هو مشروع مستقل تماما عن المشروع الروسي في سوريا, ولكن كما تعودنا على غدر السياسة من خلال اجتماع الأضداد مع بعضهم لأجل الحفاظ على المصالح الضيقة القريبة لكل منهم خلال فترة محددة, ورغم ذلك لم تحدِّد روسيا لنفسها حتى الآن حدود مشاريعها في سورية, بل لم ترسم حتى الآن لشركائها الإيرانيين حدود مشاريعهم أيضا في سورية, ولهذا السبب ما تزال روسيا غير متورطة بقوات برية كبيرة يوازي عددها أعداد تلك المليشيات الطائفية الذين تدفع بهم حكومة طهران ليلا نهارا إلى سورية, روسيا تدرك جيدا مخاطر الانزلاق إلى حرب قد تكون أوسع في المستقبل, وقد تشمل أطرافا جديدة هي الآن على وفاق أو ربما تضمن روسيا صمتها الآن ولمدة ليست بالبعيدة, لذلك نجد أن الروس قد وضعوا حدودا لهم في سورية بنشر بعض المقاتلين في أماكن متفرقة من سورية, كالساحل وتدمر, الأمر الذي يوحي لنا بنية روسيا الحالية بالذهاب مع النظام إلى “كانتونه” المزمع إقامته في حال فشله في البقاء في كل الأراضي السورية, وتتكفل روسيا بحمايته من اجل الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية في البحر المتوسط, ومع كل ذلك تعي القيادة الروسية أن الطاولة قد نتقلب عليها في أي وقت بهزيمة ذاتية وأنها لن تستطيع أن تُبقي محاور المجابهة مع خصومها مفتوحة على سوية واحدة في كل من سورية وأوكرانية, فتقع روسيا في نفس الأخطاء السابقة لها في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي, فضلا عن احتمال إعادة تأجيج النيران في عقر دارها في جمهوريات القوقاز التي تدين بالإسلام, كالشيشان وداغستان, فضلا عن بوادر الأزمة الاقتصادية التي بدأت تلوح بالأفق جرَّاء العجز الحالي في ميزان الموازنة العامة في الخزينة المالية الروسية..
في النهاية نستطيع أن نقول, وأهم من يظن أن روسيا تدافع عن النظام السوري لأجله وبدون مقابل, فالمغريات بذلك كثيرة, ومخطئ من يعتقد أن الروس يستطيعون المغامرة بعيدا في الزمان والمكان, فحدود التدخل الروسي الحالي مرهونة بالموازنة الدقيقة بين واقع المصالح الروسية, وما يترتب عليها من مخاطر قادمة.
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود.