شعب يعاني الفقر، لا كهرباء لا ماء لا دواء، حتى الهواء لوثته الانفجارات …
من بين ملايين المتألمين هنا في ربوع بلد الخضرة لبنان يقف السيد عثمان صامدا رغم جراحه، عثمان رجل لبناني بلغ من عمره عامه الخمسين، حنطي البشرة بدأت التجاعيد ترتسم على وجهه الذي بدت على تقاسيمه علامات القهر، و اعتلى الشيب رأسه فكساه بياضا، اعتاد العم عثمان على الجلوس في أحد مقاهي بيروت القريب من بيته مع رفاق عمره، يحتسي أكوابا من الشاي المليئة بحلاوة السكر.
يحكي العم عثمان بعض ما عاشه من مآسٍ بعبوس وقلق شديدين، فيقول قبل سنة من الآن كنا نعيش “متل كل هالعالم” حياة شريفة لا نركع فيها لبشر نرجو رحمته، فجأة و بدون سابق إنذار انقلب مشهد هذه الحياة بعد انفجار مرفأ بيروت” وما قدرنا نستوعب بوقتها شو صار ” كان بيتي قريب بعض الشيء من مكان الانفجار فتسبب ذلك بسقوط جدار الصالون و أصيبت ابنتي بالزجاج المتناثر في كل أطراف جسدها النحيل فنخره.
لم أكن وقتها في البيت كنت برفقة ابنتي الصغرى درّة نتجول، أحملها تارة على ظهري و تجري تارة أمامي لتسبقني إلى البيت، لكن ما أن حدث الانفجار و شكل سحابة سوداء فوقنا تغطي زرقة السماء، مشهد الشوارع التي امتلأت ببقايا جدران المنازل والمحلات وزجاج النوافذ المحطمة حتى هرولنا مسرعين إلى البيت، كما كل الجموع الغفيرة التي نجى منها من نجى وسقط البقية جثث هامدة أو جرحى، و حين وصولنا إلى البيت وجدنا الكارثة أمامنا، ابنتي قرة عيني غارقة في دمائها تحاول إبعاد قطع الزجاج السميكة عنها وفي ركن الصالون تقف زوجتي سامية مذهولة لا تعي ما ترى، حملتها وركضت نحو المشفى و من خلفي زوجتي و ابنتي تلحقان بي.
دخل العم عثمان إلى المشفى وإذ به يعج بالجرحى والجثث المحترقة فامتلأ المكان بالدماء، كأن مجزرة حدثت هنا حتى أن رداء الأطباء الأبيض ذاك أصبح أحمرا.
يضيف العم عثمان قائلا دخلت وأنا أصرخ أنقذوا ابنتي انقذوا ابنتي هي مريضة إنها تعاني من السكري أرجوكم “والحقيقة كنت بعرفا منيح” مريض السكري لا يلتئم جرحه و لا يتوقف دمه عن النزيف، كانت جراح فلذة كبدي عميقة جدا، و الدم يخرج منها متدفقا.
جثوت على ركبتي لأول مرة في حياتي أمام الطبيبة أتوسل إليها أن تفعل أي شيء ينقذ ابنتي لكنها أخبرتني أنها مسؤولة عن مرضى آخرين و أن ابنتي مع الطبيب الآن و “هو رح يعمل اللازم “.
ولم يسمحوا لنا بإلقاء نظرة حتى … بعد مدة خرج الطبيب كنت أرتعش و لم أستطع التحكم في حركاتي تلعثم لساني و غابت حروفه، فسألته زوجتي و هي تبكي “بنتي منيحة ما أكيد هي بخير ” دمعت هناك عين الطبيب فأخذت منها الجواب قبل أن آخذه من شفاهه.. ثم قال “آسف الله يرحمها ” و ذهب.
يحكي العم عثمان تلك المأساة و هو يحاول مداراة دموعه فقط من أجل زوجته التي “انهد حيلها” كما ذكر.
بعد وفاة ابنته لمى يوم الانفجار و هي في السابعة عشر من عمرها، و قبل أن يشفى جرح والداها حتى، في اليوم الثامن عشر من الشهر الجاري أصيبت الابنة الصغرى درّة بالحمى، بدأ مرضها أولا بارتفاع بسيط في درجة الحرارة، حاولت والدتها مداواتها باليانسون والزعتر لكن الحرارة تزداد أكثر.
فتوجه العم عثمان إلى الصيدلية باحثا عن دواءٍ خافضٍ للحرارة رغم علمه أن الدواء مفقود لكنه استمر في البحث عند كل الصيدليات، وبعدما باءت محاولاته بالفشل حمل ابنته إلى نفس المشفى الذي رحلت منه ابنته الأولى إلى ربها.
وإذ به يصادف نفس الصدمة مجددا الدواء غير متوفر في المستشفى أيضا ولم يستطع الأطباء تقديم العون.
حمل العم عثمان ابنته بين ذراعيه و عاد إلى منزله حاول التخفيف عنها بالماء البارد و بعد عدة ساعات لم تنخفض حرارتها، فتوجه الى بيت جاره و توسل إليه أن يوصله إلى مشفىً آخر لعلاج ابنته، يقول كنت أركض حافيا لا أدري إلى أين أتوجه أولا، طرقت كل باب علني أجد معينا، و كنت كلما قصدت أحدًا يقول ” و الله سيارتي من شهر ما عبيتها بانزين ” و آخر يقول بتجهم ” يا أخي المازوت غليان ما عندي ” حتى صادفت أمامي جاري محمد فجثوت للمرة الثانية أمامه أرجو منه الإغاثة، أمسك بذراعي و قال ” قوم قوم شد حيلك” ثم همّ بإخراج سيارته و قال لي اسبقني إلى بيتك سآتي إليك…
رجع مسرعا إلى بيته و دخل على زوجتها مستبشرا انْ جاء الفرج و بعد دقائق قليلة حضر الجار الطيب، ركب العم عثمان السيارة واضعا ابنته بين ذراعيه وركبت زوجته بجانبه، ثم يكمل حكايته قائلا كنت متفائلا و متأكدا ان ابنتي سوف تُشفى و تعود معنا سالمة إلى البيت كنت ألامِسُ وجهها الناعم الذي امتلأت تعابيره ألما واحمرت وجنتاها منه، ابنتي الصغيرة لا تستحق أن تتألم لا تستحق الوجع.
و في أثناء شرودي وتفكيري مسكتْ قميصي بيدها بقوة فعرفتُ أن الألم بلغ فيها منتهاه وجّهت إليّ بصرها بعينين شاخصتين وبنظرة عابسة و قالت “بابا” وصمتت. ظلت عيناها مفتوحتين دون حراك.. و هذا لا يعني إلا شيئا واحدا …
ابنتي رحلت إلى الأبد ، ماتت في حضني و بين ذراعي.
يحكي العم عثمان ولم يستطع كبح دموعه هذه المرة فقد احترق كبده للمرة الثانية قبل أن تنطفئ النار الأولى، يضيف قائلا وهو يجهش باكيا انقطع نسلي من الدنيا … لم ننجب سوى لمى و درّة ليس لأننا لم نرد لكن لأن ورما خبيثا أصاب رحم زوجتي فاضطر الأطباء لاستئصاله.
اليوم لم يعد هناك مقهى فالمقهى دُمر إثر الانفجار لم يعد هناك شاي و لا سكر فكلاهما غالٍ و لا تقوى جيوب أبناء الشعب على اقتنائهما لم يعد هناك رفاق فقد تركوا البلاد هربا إلى تركيا و لم تعد هنا لمى و لا درة هنا فقط آثار انفجار، بيوت فقدت اسقفها وعائلات فقدوا أحبتهم وشعب فقير مريض لا حول له و لا قوة.
أما سامية زوجة العم عثمان فقد أحا السواد بعينيها يكاد قلبها ينفطر حزنا ولم تستطع الكلام سوى بعبارة ” بعرف انو الله تعالى ابتلانا بس لانو بيحبنا و نحنا صابرين مشان ربنا “.
صوريّة بريّق
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع